أعليتُ دموعي كي تبصرها يا ألله
وقلتُ: أعيد لك الأمطار
فتنشر غيمكَ حيث تشاء
فان الحزن يعود إليّ
والغيث يعود إليك
وأنا حين ربطتُ الريح بخيمة أوجاعي
أرسلتُ بكائي في قصب الناي
وجمعتُ ينابيع الأرض
ففاضتْ من ألمي:
هذا ألمي
قرباتي لجمالكَ، لا تغضبْ
فأنا لستُ قوياً حتى تنهرني بالموتْ
يكفي أن ترسل في طلبي
نسمة صيفٍ لأوافيكْ
وتحرّك أوتار الموسيقى
لأموتَ وأحيا فيكْ
هذا ألمي
هذا ألمي
خفّفْ من وقْع جمالكَ فوق فمي
j j j
«الريحُ تحمل أثواباً وتنشرها
يا ليتني كنت ممنّ تحمل الريح»
تغفو الرمال فأصحو والرمال مدىً
جسمي لها البيدُ لكنّ الهوى روحُ
يا عابر الجسد الصحراء خذْ بيدي
وخفف الوطء إن الوطء تجريحُ
تمشي وأمشي فهل يدري بنا زمن
ساعاته الرملُ والأيامُ تلويحُ؟
يكفي من الأرض شبر نستريح به
نموت دهراً.. وتُحيينا التباريحُ
j j j
أرسلت غزالاً نحو الشمس لينطحها:
هذا ألمي
ليس نبيذاً ما يعصرهُ العصارون
ولكنْ فيضُ دمي في العنب
وأنا لستُ بعرّافٍ ينظر في النجمِ
ويقرأ ما سطّرهُ الأفاكون من الكذبِ
لكنْ
وأنا في «الحيرة» أنكرني أهلي
ونفاني العشّارون
ولم ينفعْ نسبي
فحملتُ صليبي أخبط في التيهِ
وهمتُ على وجهي
أسأل عمنّ يسقيني الماء
فلا أسمع غير طنين ذباب الأعرابِ على الكتُبِ
من حولي سبعة أنهارٍ
وبحارٌ تذرعُها الحيتانُ
وأذنابُ يخوتٍ من ذهبِ
وأموت بصحرائي عطشاً
خبّرني كيف ابدّد أحزاني
وأخفف من حُمى غضبي
سأجوبُ الآفاق لأسألها
عن سرّ بكاء الريح على القصبِ
وسيقتلني، اعلم يقتلُني الأمراءُ
وأصلبُ بين اللدّ ومكّة والنَقَبِ.
j j j
أنا إمام الطواسين
وحلاّج الزمن الغابر
ما زلت أحمل يقيني على كتفي من ألف عام
وأطوف به البلاد
باحثاً عمّن يغرس المسمار بين لحمي وعظمي
j j j
صلّيتُ ببغداد صلاةَ الدمْ
ونثرتُ بغزّةَ أوجاعي
وعبرتُ الجسر الواصل ما بين الموت وأضلاعي
دمعي أصل الطوفان
وقرباني جسدي
فاقطع إن شئتَ يدي
ستموج الغابة بالأغصانِ
ويعلو للأشجار عويل
حتى يثقب سقف القبّةْ
من لم يعرفْ وجَعَ الإنسان وغربته
في الأرض فلن يعرف ربّه.
j j j
على «سكة الحديد» التي تصل الحجاز بفلسطين
أمشي غير عابئ بالقطار الذي يمرّ سريعاً
ويسحقني تحت عجلاته
لأنني سأمنح الصرخة للرسام الذي سيجيء من بعدي
وأعطي أصل حكايتي للشاعر.
j j j
يا ربَّ ظبيٍ مشى في التيهِ مرتحلاً
ألفاً وعامين لم يبرحْ على عَجَلِ
يجوبُ أرضَ بلادٍ مات حارسُها
من باب العصرِ حتى مكّة الرُسلِ
لكنّ من عَبَرَ الأيام شيّبهُ
عشق على الجمر منسيُّ على مهلِ
إنّ المحبين يذكي نار لوعتهم
سرَّ يغور كأصل الدمعِ في المُقلِ.
j j j
سألتُ بابل عن نارٍ تؤرقُها
والأرض تنشر موتاها وتحييها
فلم تجبن فلما غابَ شاهدها
أبصرت خيط دماها في سواقيها
وجئتُ بابلَ محمولاً على خشبٍ
والريح تدفع ريحاً في نواصيها
فما رأيت على أبراجها قمراً
ولا سمعتُ أنيساً في مغانيها
j j j
… وأخيرا وجدتُك أيتها الشمسُ
في أعالي أريحا
تدورين خائفةً على الأسوار
وتغطسين في البحر كبرتقالةٍ مريضة
وما من «يوشعٍ» يعيدك من غروبك الحزين
….
j j j
أخبريني أيتها الشمس
كيف أخبئك من هذا الجراد الزاحف نحوكِ
من ثقوب العباءات
وكيف أحميكِ من رجال يرقصون بسيوفهم
على قبور أمهاتهم
وعلى بطون نسائهم المبقورة؟
j j j
إنني الآن أرفعُ يديّ نحوكِ أيتها الشمس الحبيبة
وأقولُ: اسكبي في قلبي نورك الوهاج
ولأحترق بالضوء
قبل أن أحترق بالخديعة
فالأرض حزينة جداً
يا أمّنا الجالسة في كرسيّها
كالعروس في معبد «آمون»
لأنّ الجالس الى جانبها على المحفّة
ليس ابنها الوحيد
ولكنّه لصّ المقابر
وقاتل أبيه لكي يرث العرش
j j j
يا غوثْ شمس غياث الله غيثيني
أنا الضعيف كأعناق الرياحين
تلقين في الأرض شمساً غير كابيةٍ
كالبرق يشعل أحشاء البساتين
اني رأيت ولي رؤيا مغامرة
نجماً تألقَ في اقصى شراييني
رؤيا أخاف إذا ما قلت سيرتها
من أخوتي أن يخونوا أو يكيدوني
فاكتم حكايتها في القبر يا أبتي
فالورد ينبض في اصل البراكينِ
j j j
ولكنْ
ها إنّ أقحوانة الدم
تزهر في قميصك يا منصور
وإبرة الموت العميقة
تطلع من جسدك متوّجة بقطرةٍ جميلة من دم الحياة.
أخبرني من يجعل السماء تتفتّح كعنق الذبيحة
في هذا الصباح
ويهزّ القُرى بيديه كما يهزّ جذوع النخيل؟
من ينبّت أقدام الجبال الخائفة، في اماكنها
ويلمّ شمل الأنهار الشاردة كالقطعان؟
منْ ينفخ في الصُور فينهض الموتى من مقابر الأرقام؟
منِ الرجلُ يا «منصور» ذو العباءة السوداء
واللحية الموخوطة بخيوط من فضة الفجر
يسند كتفيه الى جبل الريحان
ويصوّب إلى شاطئ المتوسّط
فتضطرب الأمواج
ثم تنكشف عن سمكِ القرش وهو يئنّ من الطعنة؟
له ينظر الرجال بدهشة الأطفال
والأطفال بأحلام الرجال
وله تغنيّ نساء الجنوب أغانيهنّ الجميلة الزرقاء…
j j j
كادت سرائر سرّي لا تبوح به
وكاد خوفي عليه لا يُسميّه
ينأى ويقرب مجلوّاً ومستتراً
كالغيب أجملُ ما في الغيبِ ما فيه
من ذا هو الرجلُ العالي ولست أرى
إلا بريق نجومٍ في أعاليهِ
يلقي على السهلِ ظلاً من عباءته
فينبت العشبُ في أقصى حواشيهِ
يكاد يلمس قلب الماء مبسمُهُ
ويهطل الغيث إن صلىّ على التيهِ
محمد علي شمس الدين
شاعر وناقد من لبنان