-1-
عندما نزلت درجات البازان الكثيرة، كان درمش يملأ زفة الماء، حالما تشرق الشمس يكون هنا، كأنه على موعد مع الأدخنة التي تبدأ في التصاعد من مدخنة حمام طيبة، في الخامسة تماما من صباح كل يوم، يكون قد بدأ خطواته الأولى على درجات بازان ضروان، زفته محبوكة على كتفيه، يضع الزفة على الدرج الأخير، يفصل الاناءين عن بعضهما، يملأهما ثم يلضمهما في الحامل، ينزل تحت الحامل ويرفع الزفة قائلا بصوت عامر بالعزم: يا قوي ! استرها معنا دنيا وآخرة !
-2-
توثقت علاقتي مع درمش، أصبحت أسير بجواره وهو يصعد درجات البازان الكثيرة، المتخددة، المليئة بالكسور والقاذورات، أعاني من الصعود والنزول، بينما هو يقوم بهذه المهمة وكأنه يبحث عن الأجر والثواب، كان يرتل باستمرار كلمات مبهمة وغريبة، بصوت هامس، دافيء، بمد كلمته التقليدية التي يطلقها بصوت واضح ومحدد، كلما رفع زفة الماء.
كان الماء مع كمية وافرة من العرق ينزل على كتفيه ويمتد الى صدره وذراعيه، وكان العرق ينزل من خديه وجبهته، وبعضه يخترق الطاقية واللغة السميكة لينزل من رأسه مشكلا تيارا دافقا، ولم يكن ليعدم الوسيلة التي يتخلص بها من قطرات العرق ورشح مياه الزفة، قائلا بأستسلام غريب: "الحمد لله، إنه ينزل وباستمرار، ارتاح عندما ينزل العرق بغزارة، لكنني احتار، لماذا تقول والدتي إنه عرق العافية ؟ لا أعرف ما هو عرق العافية ! ما أعرفه فقط هو أن العرق يتفصد ويتكاثر على جسدي، وحالما أجلس في الظل أجده تحول الى ما يشبه الملح الناعم الهش، لكنه لا يشبه ذلك الملح الذي يبيعونه لنا في سوق الحبابة، مقابل كيس من نوى التمر لتقوم أمي بإضافته على العجين، لعمل فطيرة الصباح الساخنة، المضمخة في مرقة الهواء، أمي تسميها هكذا!".
* أين ذهبت بك الهواجس ؟
– إنني أفكر في مرقة الهواء والفطيرة !
* وتتركني مع العرق والزفة،إنني في مأزق !!
كان واضحا أنه في مأزق. الحرارة لا تطاق. الشمس تنزل على رأسينا حادة وحامية كالسهام، لكن المسافة من البازان الى منزل المقريه بدت قريبة، اجتزنا السقيفة. الطريق اليها ضيق ومتعرج، لكنه ظليل. هواء عليل يتسلل من السكك المجاورة، خفت حدة الحرارة:
– نحن الآن في الظل !
قلت لدرمش، لكنه لم يرد إنه يحفظ طريقه، يخترق عينيه كل ما في البيوت من مناظر، الشبابيك، النقوش، الأبواب، المرازيب، الشرفات، النساء البدينات، والرشيقات والجواري، وهن يلقين النظر عليه من الروشان، عندما يسمعن صوته، وهو يقف على الباب مناديا:
* زفة يا ست البيت !
الجارية تطلق الصوت "طيب يا درمش.. وه.. اشبك مصروع كده.. هي أول مرة تشيل زفة !!".
عادة لا يرد، يدخل حالما ينفتح الباب، الجارية تقف خلف الباب، ربة الدار فوق، لكنه ينادي: دستور ! حتى يتمكن من تفريغ زفته في الأزيار الكبيرة المرصوصة في بيت البئر.. يدخل ويخرج ونظره الى الأرض، لكنه مع ذلك يقول بثقة أن صدره مليء بأسرار البيوت.
كنت أقف بانتظاره أمام الباب، أدخن سيجارتي وأحصي الغنم السائبة وحاملي زفات الماء وهم يهرولون من دار الى دار، أرقب حركاتهم ومكناتهم، كنت أذهب معهم الى المقهى وفي ليالي العيد أدخل معهم الى حمام طيبة، حيث نفرق جميعا في المياه الساخنة والأبخرة، ثم نتمدد معا على الطاولات الخشبية المرصوصة في صالة الحمام العلوية، وفي آخر الليل نذهب سويا الى المناحة بحثا عن المزمار.
-3-
(درمش) هو السقاء الوحيد الذي أجد فيه شيئا من نفسي، كأننا نزلنا من بطن واحد. رغم أنه مولود في حارة الأغوات وأنا مولود في حوش كرياش، كيف التقينا؟ ذلك حديث يطول، ما أذكره تماما هو شجارنا الدامي في مقهى المعلم، في الجهة المقابلة لشارع العينية، كان يرتدي حلة جديدة، وكنت عائدا للتو من مهمة شاقة ومؤلمة، كانت ملابسي ملطخة بمياه المجاري، ويداي سوداوين من الأوحال، كانت الشياطين كلها تتراقص أمامي، طلبت براد الشاي والشيشة، جلست متربعا على الكرسي الطويل، أمامي كان يجلس (درمش) مع بعض السقائين، كان الحديث بينهم يدور بصوت مرتفع، سمعت (درمش) يقول لزميله:
* برضك النضافة ما في زيها!
ولم أملك نفسي تلك اللحظة، فحدقت إناء الماء الفخاري باتجاههم لتبدأ المعركة في الحال، ولننام تلك الليلة في السجن، وهناك أصبح (درمش) صديق العمر، ودعت كل شيء وجلست معه، أذهب معه، أنام معه، أتبعه كظله، وان كنت أشعر دائما بأن علاقته مع الجميع كانت محايدة، يضحك ويمزح ويلعب المزمار، لكن هناك حدا فاصلا بينه وبين الجميع، يسدله ويزيحه في الوقت الذي يريد، ولم تفلح كافة الحيل في معرفة مكنون صدره !
قلت له ونحن نجلس بمقهى المناحة:
– القلب يهرج والا إيه !
قال بدون تردد:
* القلب ميت !!
ولا أدري لماذا نزل رده علي كالماء البارد، صمت قليلا، حركت الملعقة في براد الشاي، ومددت خيطا في الحوار:
– ليه كفى الله الشر؟!
* ولا شر ولا حاجة.. طول عمره قلبي ميت.. كيف تبغاه يهرج ؟
– حبيت ؟
* احم.. ليه انت حبيت ؟
– لا!
لا أجل كلنا في الهوا سوا.. هات الفنجان وخلينا نشم هوا المناحة واحنا ساكتين… والله ترى أقوم ! كان هذا آخر العهد بيني وبينه، لسبر أغوار نفسه، إنه كما قال شيخ السقائين "رجل بركة !".. ولست أدري كيف توصل شيخ السقائين لهذه النتيجة، فأنا شخصيا لم أر شيئا من بركاته، فقد كان يثور في أي لحظة، وان كان لا يضمر شرا لأحد، إنه يهب كالبركان ثم يبرد بعد لحظات !
-4-
عندما خرجنا من البازان، قال لي إنه سوف يحكي لي حكاية تؤرقه، مشينا طويلا، ربما قضينا على أزقة ضروان كلها، حتى وقفنا أمام مكتبة عارف حكمت، قال لي إنه تقدم لأسرة يريد الزواج من إحدى بناتها، لكنهم لم يجيبوه إلا بكلمة واحدة، "أخرج بره يا ندل !" خرج من عندهم وأخذ يحدف البيت بالحجارة، حتى خرج أهل الدار مع جيرانهم يركضون خلفه ولم يتركوه إلا وهو فاقد الوعي، كان ذلك اليوم من أتعس الأيام في حياته، قال لي بعد أن روى الحكاية:
* هاه، إيه رأيك في إعيال الكلب هدول ؟
قلت له:
– لماذا لا ترسل أمك لتقوم بهذه المهمة ؟
* فين أمي؟ أنا ما عندي أحد. مقطوع من شجرة، لا أم ولا أب ولا أخ.. مقطوع من شجرة !
– وبعدين.. ليه ما تدور غير هادا البيت ! في ما في أحد يبغاني.. كلهم يقولون عني مزواج!
* أيوه.. تزوجت ست مرات.. كل مرة تطلب المرة الطلاق أطلقها.. لعنة الله على جنس الحريم.. واحدة منهم قالت لي تأني يوم الدخلة أنا متزوجة رجال أما حمار، ضربتها وطلقتها..والتانيات شرحها..!!
ضحكت كثيرا حتى استلقيت على قفاي، في الوقت الذي كان يبكي فيه بحرارة ويلعن حظه مع النساء..
– 5 –
ليلة العيد ذهبت الى مقهى المناحة، كانت المدافع، ترسل قذائفها من مبنى القلعة، الناس تتدفق من كل مكان الى باب المصري، محلات الحلوى والمشبك تملأ الميدان كأنهم في ليلة الحشر، أعيد هذا؟ أم مولد سيدي حمزة ؟! الشموع وطشوت الحناء، والسقطان والرؤوس المسلوخة، الحلاوة الحمصية، وخصف الجنة، صور تتالت على خاطري، تمنيت أن تعود تلك الأيام، لأمرح في ذلك الفراغ الرهيب، الذي لا تحده سوى الجبال ومجاري السيول ومقام سيدي حمزة.. إنني الآن أراقب نفس المشهد، نفس الوجوه، المشتريات، كلهم يتدفقون وتحت أباطهم وعلى رؤوسهم وبين أيديهم الحلوى والمشبك، بعودة الأيام، يعود على اللي ما عاد عليه.. تناثرت العبارات الحميمة بين كراسي المقهى التي بدأت تستقبل الناس، قال واحد من الناس: "صحيح إذا عشر بشر.. من يصدق أننا نودع الليلة أبرك الشهور؟ صمنا وقمنا، اشتغلنا ونمنا.. وما درينا إلا والشهر قال أنا خلصت !" ملت على درمش ضاحكا:
– هاه إيش رأيك الليلة نزور الحمام !
* والله فكرة !
قال ذلك بحبور ثم نهض واقفا، نادى على القهوجي، أعطاه حسابه، لف الشال على رأسه، وتحركنا معا، لم يفكر أبدا في الملابس الجديدة، ولا في الغيارات التي سوف نحتاجها في الحمام، كانت الأمور في بعض الأحيان تفرض نفسها عليه، كأنني وضعته في موقف يبحث عمن يضعه فيه، أيام وأيام كانت تمر عليه من غير أن يفكر في الدخول الى الحمام،. مع أنه يزور البازان عشرات المرات، تنزل المياه على جسده لكنه ربما لم يفكر في دعك جسده، كان حمام طيبة هو ملجأنا. نزوره في المناسبات السعيدة، أما بقية الأيام فقد كنا ننزل تحت حنفية البازان بكامل ملابسنا وعندما ننتهي نمشي بها حتى المناحة، وهناك نجلس على كرسي المقهى، ليتولى الهواء تجفيف ما علينا.
– 6 –
كانت حارة ضروان خالية، الاضاءة معتمة، بضعة أشخاص يدخلون ويخرجون من الحمام، كان عم فضل يجلس على يمين المدخل مباشرة، بجانبه دولاب صغير، مد يده بصمت وقدم لنا المناشف والليف والصابون، وهو يقول بصوت محايد: من العايدين والفايزين.. الله يجعلنا من عواده !
درمش لم يرد عليه، كأن العيد لا يعنيه، أخذ ما أعطاه ثم دخل على عجل، كانت الغرف الصغيرة المعتمة دافئة وعابقة بالبخار ورائحة العرق، لكأن عرق المدينة كله يصب في هذه الغرف المعتمة في هذه الليلة بالذات.. جلسنا معا بملابسنا الداخلية. ناولت (درمش) الليفة وقلت له: لنبدأ العمل فورا!
انتشيت عندما انتهى من مهمته.. تمددت على الأرض الرطبة.. كان درمش ساهما، يسترق النظر الي بين وقت وآخر… وكنت أفكر مليا في نساء درمش، واحدة، واحدة، فارقنه وتركوه وحيدا، عذرتهن، تململت على الأرض الحجرية الرطبة، السائل اللزج ينز، قمت، جلست تحت البزبوز، أخذت أملا القدح وأصب منه على مهل فوق جسدي، كان درمش ما يزال ساهما، هل كان يفكر في البديل ؟ كلانا في أزمة، واحد يعطي وآخر يأخذ، وهكذا بقت كفتا الميزان متعادلتين اشتقت لفنجان الشاي والتعميرة، لكن جسمي ما يزال مخدرا، كافة عروقي تمددت، أحس بالدم يجري وبرأسي تدور، ذلك ما أعرفه عن الحمامات كلها، ما هو الجديد إذن، هل نهجر حمام طيبة الى بازان ضروان، حيث المدرة والسقائين والكلاب الضالة ؟
وجدت أنه يرتاح، توسط المكان، وقف، حب على رأسي، ثم نهضنا معا تلحفنا بالمناشف وصعدنا للطابق العلوي من الحمام، وهناك نمنا ولم نستيقظ إلا على صوت عم فضل وهو يطرق بقبقابه في ردهات الحمام الذي بدا خاليا من الزبائن !!
– 7 –
هذا صباح العيد إذن، صباح حامض، لزج، لا جديد فيه، سوى هذه الشمس الساطعة، الشارع خال تماما، طفلان يطرقان على أحد الأبواب، ملابسهما زاهية، عقال مقصب، مشلح أبيض بقصب، مزهوان بما يرتديان، ضحك درمش كثيرا، أشعل سيجارة، تطلع الى حيث الرواشين، كانت نقط الماء تنزل بتؤدة من قلل الماء الموضوعة على حواف الرواشين، كان يريد أن يقول شيئا، لكنه ابتلعه مع الدخان، مشيته كانت بطيئة ومرتاحة، أكره السجائر والفرح، الى أين سنذهب الآن ؟ كافة الأهل رحلوا، لم يبق سوى (درمش) أصبح الآن سكني، منه أستمد التطلع الى واقع جديد، كرهت رائحة المجاري العفنة في حمام طيبة فقط، شعرت بالنشوة التي افتقدت، قلت بدون تفكير:
– درمش.. ليش ما تأخذني معاك للبازان !
قال وكأنه استقر على ما طرحته عليه:
* احنا فيها… من بكرة اشتريلك زفة.
حسين علي حسين (قاص من المملكة العربية السعودية)