لا يتعلق الأمر بعنوان لافت لاجل الاغراء.. ولكن يتعلق بحقيقة ماثلة في تجربة مسرحية مغرب -عمانية متميزة.. مسرحية "الجسر" النص للكاتبة العمانية آمنة ربيع سالمين والانجاز لفرقة اللواء البيضاوية للمسرح من المغرب.
قد كان الجسر الحقيقي هو العدد الثالث من مجلة نزوى (يونيو 1995) الذي حمل في طياته نص المسرحية في فترة كانت الفرقة فيها في عطلتها السنوية منكبة على تأمل تجربة عشر سنوات خلت تتشكل من أعمال مسرحية مغربية (ليلة بيضاء – ماض اسمه المستقبل) وعربية (سمنهرور – الاغتصاب.محاكمة السيد «م») وعالمية (ليلة القتلة – الرجل الأحزن)… وتبحث عما يسير بالتجربة قدما يحافظ لها على مكاسبها المتحققة، ويمدها بدم جديد يسجل لها موقعا أكبر في مستقبل الخريطة المسرحية المغربية.. لم تسلم الفرقة في هذه الفترة من حية الاختيار حين، وخيبة الملل في بعض النصوص حينا آخر، وندرة المساحة مما يستجيب لميولاتها الفنية وقناعاتها الفكرية أحيانا أخرى.. وفجأة تطلع محلة نزوى بنص يلبي رغبة الفرقة.. مسرحية "الجسر".. فرض عليها هذا النص في البداية نوعا من التوجس والحذر، والخوف من السقوط في اجترار مواضيع سبق طرحها، تحول التوجس الى نقاش وصل حد الجدال بين عناصر الفرقة، ليتم بعد ذلك الوصول الى جوهر النص المتمثل في سؤال الهزيمة.. لم يكن هذا السؤال جديدا على الفرقة، لكن جديده يكمن في الصيغة المغايرة في الطرح التي حملها النص.. ما كانت تعرفه الفرقة سابقا وحربته في بعض أعمالها هو فضح الهزيمة، إبرازها، تحديد أبعادها.. إلا ان الجديد الذي حمله "الجسر" هو امتداد الهزيمة فينا.. سؤال الامتداد هذا جعل الفرقة تسأل ببراءة، هل انتهت الهزيمة فعلا؟ هل هزمنا وانتهى الامر ونستطيع أن نحيا بعد ذلك؟ ماذا نسمي، إذن سلسلة الانكسارات المتوالية؟ … هذه الأسئلة شكلت بؤرة التواصل الأولى مع النص ونواة الاعداد والاستعال الدراماتورجي الذي يؤطر مشروع العرض.. وتلك طريقة الفرقة في التعامل مع النصوص التي تبدو مواضيعها في البداية كأنها مكررة ومجترة، فتكتشف عمقها وعمل على ابرازه بالاشتغال الفني والتقني الذي يليق به … ومثال ذلك إقدامها على الاشتغال على نص فارس المسرح العربي سعد الله ونوس "الأغتصاب" الذي بدا للوهلة الأولى كأنه مجرد إضافة تراكمية لما سبق من نصوص مسرحية حول القضية الفلسطينية. فإذا هو طرح آخر للقضية بجرأة تكشف عن المسكوت عنه فيها، أي الطرف الآخر الذي تم إلغاءه في الكتابات السابقة. فسقطت في الشعار والكلمات الفضفاضة. بينما جعله سعدالله ونوس حقيقة تشكل جزءا رئيسيا في نقاش القضية.. كذلك "الجسر"، لم تكن مسرحية تحتر آلامنا وهزائمنا فحسب ولكن وضعت يدها على جانب مهم –نغفله أو نتغافله – وهو امتداد الهزيمة فينا لتصبح شيئا ملتصقا بالذات لا يبرحها.. وهو ما جسده قاسم بطل المسرحية، الذي ظل يحمل هواجسه المهزومة في شكل كوابيس لازمته أبدا رغم انتهاء الحرب، هزيمة على كافة المستويات.
1- هزيمة الذات في مواجهة نفسها والصدق معها، وهو ما جعله في حالة شتات وهذيان مستمرة.
2- عجزع عن ان يكون ذاتا منتجة (لم يفلح لا في مساحة الحرب ولا فوق الفراش، ويتهم وصال زوجته بالعقم).
3- عدم قدرته على استيعاب وضع جديد (وضع ما بعد الحرب / الهزيمة) مما ادخله في حالة تناقض وجداني Ambivalence بين هواجسه القديمة التي لم يفجرها في إبانها وبين واقعه الجديد الذي لم يستطع التلاؤم معه.. واقع هندسه صديقاه القديمان أشرف و ايمن اللذان غيرا جلديهما وتلونا بلون المرحلة الجديدة، بل أصبحا من أسيادها، فتاه قاسم وسط هذا التناقض الذي رمى به الى مفارقة ضاعفت شتاته وخواءه.
4- الشلل الذي تملكه في التفكير والابداعن ولم تعد يده تطاوعه على الرسم والتلوين، يقف عاجزا واللوحة فارغة، ليس – فقط – لأنه ذات فارغة، ولكن – أيضا – لأن كل شحناته الداخلية غير منظمة، وغير مستقرة، وغير واضحة فلا تستطيع أية حالة إبداعية أن تستجيب له أو أن تستوعب شحناته.
أمام كل هذه الانكسارات، وتسلسلها في ذات قاسم، اصبحت العزيمة شينا ملازما له ممتدا فيه (وذلك اختزالا لسلسلة الانكسارات والعزائم اللازمة لنا والممتدة فينا ايضا) فيقود ذلك في النهاية الى حالة كلبية قصوعا، تفضي الى نباح مستمر وصل درجة الهلوسة والهذيان، وكان على مقربة من الجنون لولا وصال، هذه الزوجة التي رغم عقمها، فقد حاولت أن تفيض بأمومتها عليه لعلها تسقيه قليلا من التوازن ولو بشكل مؤقت.
استوعبت الرؤية الاخراجية طروحات النص، واعادة قراءتها عبر إعداد دراماتورجي زواج بين النص المسرحي (الجسر) ورواية "حين تركنا الجسر لعبدالرحمن منيف 0العنوان الكامل للنص هو: "الجسر: رؤية درامية مغايرة لرواية حين تركنا الجسر لعبدالرحمن منيف). تم ترجمت رؤيتها الى انجاز يرتكز على المبدأ الجمالي والتجريبي الذي راهنت عليه الفرقة في مسارها الفني.. وهكذا صار لـ "الجسر" فضاء سنوغرافي متميز تؤثثه أشياء Des objects تحاول ان تكون أيقونية لانتاج دلالة العرض مثل: الحامل واللوحة، الفزاعة، البذلة العسكرية، المرآة، سطل الماء … وخواء عام تتعاقب عليه عتمة متدرجة عبر تخطيط ضوئي مبني في اشتغاله على مركزية الحالات الخاصة les effets speciaux متضافر مع موسيقى وتموج صوتي يحيل على أجواء مختلفة أستحضرها العرض: الحرب، الخراب، الكوابيس، الهذيان، الاعصار … أما نظام التشخيص في العرض، فقد بني على تراتبية المستويات سواء بين الجماعات (قاسم ووصال في رتبة أكثر تركيزا واهتماما من رتبة أيمن و أشرف) أو بين الممثل ونفسه (قاسم مثلا، يعيش حالات متعددة ومتحولة على امتداد العرض، لابد أن يراعيها نظام التشخيص، وكذلك أيمن وأشرف اللذان قام بهما ممثل واحد باعتبارهما وجهين لعملة واحدة، لكن في الوقت ذاته لابد من الحفاظ على الاختلافات الداخلية بينهما، وهو ما لا يمكن أن يتم إلا من خلال نظام التشخيص.
هذا صورة تقريبية (أو شهادة)، وصفية اكثر منها تحليلية، لمسرحية "الجسر" التي استطاعت أن تكون حلقة تواصل بين عُمان (النص) والمغرب (الاخراج والانجاز)، وتشكل تجربة موحية متميزة.. إلا ان الطريف في الأمر أن الظروف حرمت الكاتبة من مشاهدة نصها ملعوبا على خشبة مسرح، وحرمت الفرقة من لقاء الكاتبة.. ويمر على العرض المسرحي هذا أزيد من سنتين ليتيح القدر – بالصدفة – لكاتب هذا السطور أن يحقق جسر التواصل الفعلي عبر لقاء الكاتبة بعمان وإطلاعها على عرض مسرحيتها عبر صور فوتوغرافية رغم صمتها وسكونيتها، جعلت الكاتبة متحمسة لجسر مسرحي مستقبلي من خلال أعمال مسرحية اخرى.. من هنا لم تكن هذا التجربة متميزة فقط، بل إنها لم تخل من طرافة.. وأكدت أن التواصل الابداعي قادر على أن يكون أقرب الجسور بين الشعوب والثقافات مهما تباعدت.
عبدالمجيد شكير (كاتب من المغرب)