سليمان بن عمير المحذوري
باحث عماني
ترتبط عُمان بعلاقات متجذرة مع مناطق ساحل إفريقيا الشرقي من الصومال شمالًا وحتى موزمبيق جنوبًا؛ إذ تمتد هذه الصلات إلى ما قبل القرن الأول الميلادي كما يُشير إلى ذلك صاحب كتاب “الطواف حول البحر الأريثري” Periplus Maris Erythraei. فقد استثمر البحارة العُمانيون خبرتهم الملاحية الواسعة في الإبحار بثقة واقتدار في مياه المحيط الهندي مع حركة الرياح الموسميّة. ونتيجة لهذه الحركة المستمرة تواصلت الهجرات العُمانية، واستقرت في مناطق متفرقة من هذا الإقليم الواسع سواء على الشريط الساحلي أو في جزره المتناثرة أو حتى داخلية إفريقيا جهة البحيرات الاستوائية.
ومع هذا الحضور العُماني المتواصل والمكثّف في هذا الإقليم وتأثيره الحضاري الذي لا يُمكن تجاوزه أو إنكاره؛ بيد أنّ المصادر العُمانية في هذا الجانب كانت قليلة جدًا إن لم تكن نادرة، ولعل أبرزها “جهينة الأخبار” للمغيري، و”مذكرات أميرة” للسيدة سالمة، وكتاب الفارسي “البوسعيديون حكام زنجبار”. فيما تناولت مؤلفات غربية هذا التأريخ مثل كوبلاند، وهولينجروث، وبينت، وجراي وآخرين بحسب توجهاتهم ومنطلقاتهم الأيديولوجية. وبهذا الخصوص يُمكن العثور على معلومات مهمّة في الوثائق والمخطوطات، وكتب الرحّالة الذين دونوا كثيرًا من التفاصيل عن المنطقة وسكانها لا سيما خلال النصف الثاني من القرن 19م مثل برتون، وليفينجستون، وستانلي. كما أنّ هنالك دراسات أكاديمية سواء في سلطنة عُمان أو خارجها تناولت موضوعات مختلفة وإن غلب عليها طابع التكرار، إلى جانب المؤتمرات العلمية التي سلطت الضوء على سبر كنه العلاقة بين عُمان وشرق إفريقيا مثل مؤتمرات هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، وجامعة السلطان قابوس والتي خرجت بأبحاث مهمّة لا يُمكن إغفالها.
ومن وجهة نظري أنّ هذه التوطئة مهمّة للقارئ قبل الشروع في القراءة التحليلية والنقدية لهذا الكتاب الذي حمل عنوان “الحضور العُماني في شرق إفريقيا”. ورغم مشاركتي في هذا الكتاب بمقال عن التاجر العُماني أحمد بن إبراهيم العامري ص 118-121؛ إلا إنني سأجتهد قدر المستطاع في قراءة الكتاب قراءة موضوعية.
وصف الكتاب:
يقع الكتاب في 320 صفحة بحجم قطع كبير من الورق المصقول بإنتاج مشترك بين شركة ديماكس DEMX GmbH الألمانية، ومجلة نزوى وبإخراج وتصميم فني لافت وجذاب؛ ولكن ربما بسبب إصداره في نسخة ذات طباعة فاخرة سيكون من الصعوبة بمكان اقتناء الكتاب لفئة ليست هينة من القرّاء. وهذا الكتاب هو النسخة العربية، المؤلف أساسًا باللغة الإنجليزية تحت عنوان Omani Presence in East Africa، كما أنّ الكتاب مترجم إلى اللغة السواحيلية كذلك. ولا شك أنّ صدوره بلغات ثلاث سيتيح له مجالًا واسعًا للانتشار في رقعة جغرافية كبيرة من العالم؛ ووصوله إلى أيدي شريحة واسعة من الباحثين والمهتمين.
كتاب “الحضور العُماني في شرق إفريقيا” من تأليف وتحرير الشركة الألمانية المُشار إليها، وهو ذو غلاف أزرق داكن من ورق مقوى طبع على غلافه قصر بيت العجائب الشهير الذي بناه السلطان برغش بن سعيد عام 1883م في زنجبار، وهو أيقونة حضارية من مآثر سلاطين البوسعيد في شرق إفريقيا أعطت للكتاب رمزية مهمّة.
ظهر الكتاب لأول مرة خلال معرض مسقط الدولي للكتاب 2024. تجدر الإشارة إلى أنّ المادة العلمية للكتاب هي حجر الزاوية والأساس الذي اعتمدت عليه الأفلام الوثائقية الثلاثة “بيت العجائب” التي أنتجتها شركة ديماكس بالتعاون مع مجلة ، والتي عُرضت مؤخرًا في دور السينما، ولا ريب أنّ هذا أمر محمود كنا نتمناه وتُشكر عليه مجلة . وهذه الأفلام تروي قصة الوجود العُماني في قارة إفريقيا؛ الجزء الأول من هذه السلسلة تناول إمبراطورية السّيد سعيد بن سلطان، والثاني ركّز على عصر القوافل، أما الجزء الثالث فكان بعنوان صوت مومباسا.
أسلوب الكتاب سهل يشجع على القراءة سواء من المهتمين أو الباحثين أو حتى جمهور الناس، لا سيما وأنه تضمّن صورًا ملونة وخرائط ووثائق بعضها نادر في جميع فصول الكتاب؛ مما أكسبه ميزة بصرية تساعد على توضيح وترسيخ المعلومات في ذهن القارئ.
مضمون الكتاب:
يُمكن الاستدلال على الهدف الرئيس للكتاب من خاتمته وهو نشر الوعي بالتراث المشترك بين عُمان والدول الواقعة في شرق إفريقيا. ويبدو ذلك جليًا من خلال اختيار موضوعات الكتاب بعناية فائقة حيث اتسمت بالشمولية مع التركيز على ثلاث شخصيات عُمانية كان لها حضور حضاري طاغٍ في تفاصيل الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة في شرق إفريقيا؛ وهي السّيد سعيد بن سلطان في زنجبار، وحمد بن محمد المرجبي الملقب بـ “تيبوتيب” في داخلية إفريقيا، والشيخ مبارك بن علي الهناوي في ممباسا.
توزعت موضوعات الكتاب بين أربعة فصول مرتبة بطريقة منطقية بحيث تعطي القارئ صورة متكاملة عن ماهية العلاقة بين عُمان وشرق إفريقيا؛ وهي على التوالي: بناء العلاقات مع شرق إفريقيا، وميلاد إمبراطورية تجارية، واكتشاف قلب إفريقيا، والإرث العُماني في حاضر شرق إفريقيا. قدّم للكتاب أستاذنا الدكتور إبراهيم الزين صغيرون المتخصص في التاريخ العُماني في إفريقيا الشرقية مما أعطى الكتاب قيمة علمية مهمّة. ولعل مساهمة نخبة من المختصين الذين ينتمون إلى مدارس متنوعة بكتابة مقالات علمية رصينة حول الموضوعات التي تناولها الكتاب أسهم في معالجة كثير من القضايا بشكل موضوعي وسيُكسب الكتاب مصداقية لدى القرّاء.
وفي الحقيقة، من الصعوبة بمكان تناول كل الفصول والموضوعات في مقالة كهذه محددة بعدد معين من الكلمات؛ إلا إنني سأحاول التركيز على بعض النقاط دون غيرها خشية الإطناب الممل في تحليل مضمون الكتاب.
بدأت مقدمة الكتاب ص11 تحت عنوان عُمان “موطن التجار وربابنة السفن”، وهي افتتاحية موفقة؛ كون أنّ أساس علاقة عُمان بالدول المطلة على المحيط الهندي بُنيت أساسًا من خلال ركوب البحر، واعتمدت على مهارة العُمانيين في الإبحار، وصناعة السفن الشراعية التي حملتهم إلى تلك البلدان مع هبوب الرياح الموسمية. فخلال فصل الخريف كانوا يبحرون إلى ساحل إفريقيا الشرقي مع الرياح الشمالية الشرقية التي تسمى بـ الأزيب، ويعودون مع الرياح الجنوبية الغربية التي تسمى بـ الكوس في فصل الربيع. وفي ص20 من المقدمة وُصفت الأحداث الدامية في زنجبار والتي حدثت في 11 يناير 1964 بأنّها “انقلاب دموي”، وتارة بأنها “ثورة”؛ فيما يرى بعض الباحثين بأنها “غزو” خارجي تعرضت له زنجبار من خارج أراضيها؛ وبالتالي ربما كان من الأفضل تحري المصطلح الدقيق في وصف تلك الأحداث الأليمة حتى لا يلتبس هذا الأمر على القارئ. ولعله من المُناسب كذلك إعادة النظر في صياغة الفقرة الأخيرة في الكتاب ص30 بما يتناسب مع الوقائع التاريخية؛ حيث تتحدث هذه الفقرة عن الصراعات بين المسلمين التي حدثت في عهد الإمام علي، ونشوء المذاهب الإسلامية.
في ص32 تعرّض الكتاب للهجرات العُمانية إلى شرق إفريقيا مثل هجرة آل الجلندى بقيادة سعيد وسليمان ابني عباد بن عبد بن الجلندى في الربع الأخير من القرن الأول الهجري، واستقرت هجرتهم في أرخبيل لامو. ولا شك أنّ الهجرات العُمانية المتواصلة سواء أكانت فردية أو جماعية كانت هي النواة لتأسيس المجتمعات العُمانية في ساحل أو داخلية إفريقيا. وعدا الإشارة المقتضبة في ص275 إلى هجرة النباهنة تمنيت لو توسع الكتاب قليلًا بشأن هذه الهجرة التي حدثت في القرن السابع الهجري، واستقرت في جزيرة بتة أو باتي بزعامة الملك سليمان النبهاني؛ حيث تذكر المصادر أنّ هذا الملك تزوج من أميرة سواحيلية وهي ابنة حاكم الجزيرة إسحاق بن محمد البتاوي الذي تنازل له عن الحكم عام 1203م، وبذلك استطاع الملك النبهاني تأسيس مملكة عربية استمرت عدة قرون.
وفي مقالة تتحدث عن حكم السّيد سعيد بن سلطان وردت في الكتاب ص75 معلومة عن أحد وزراء المالية لدى السّيد سعيد، وهو أحد أقرب المستشارين إليه “يدعى هذا الصابئ أحمد بن أمان”؛ لعله يُقصد به أحمد بن نعُمان الكعبي الذي ولد في البصرة، والتحق بخدمة السّيد سعيد في العقد الثاني من القرن 19م، وأصبح سكرتيره الخاص؛ فإن كان الأمر كذلك فهذا الأخير كان مسلمًا وزعيمًا لطوائف الشيعة في شرق إفريقيا.
ومن الموضوعات المهمّة التي تناولها الكتاب في الصفحة148 وهي جديرة بالبحث المعمق والتمحيص كتابات الرحّالة الأجانب حول المناطق التي زاروها في داخلية إفريقيا خلال القرن 19م. ومن أولئك الرحّالة البريطاني ليفينجستون، والأمريكي ستانلي، الذين غامروا في الوصول إلى منطقة البحيرات الإستوائية بدعوى الاستكشاف؛ رغم أنّ لهم مآرب أخرى تنصيرية واستعمارية. وفي ظل غياب المصادر المحلية لا جدال أنّ لكتاباتهم أهمية كبيرة في تدوين كثير من التفاصيل وخاصة تسجيل بعض الإشارات عن الوجود العُماني في داخلية إفريقيا وممارستهم للتجارة، وتأسيس المراكز الحضارية على طول الطرق الرئيسة المؤدية إلى هضبة البحيرات بحثًا عن العاج، تلك السلعة التي كانت تلقى رواجًا عالميًا. ورغم أسبقية التجار العرب في الولوج إلى الأدغال الإفريقية مثل حمد المرجبي المعروف بـ تيبوتيب، وكانوا هم المرشدين أساسًا للرحّالة الأجانب، كما حظيت بعثاتهم بحماية مباشرة من سلطان زنجبار؛ بيد أن الكتابات الغربية كرّست التفوق الثقافي الغربي فيما تجاهلت الإنجازات العربية.
ومن خلال تصفح محتوى الكتاب نجد مقالات مهمّة منصفة سلطت الضوء على مثل هذه القضايا مثل المقال المعنون بـ أعظم تجار العاج على مرّ العصور ص 150. إلى جانب تناول قضايا شائكة بشأن علاقة عُمان مع شرق إفريقيا وبموضوعية مثل موضوع تجارة الرقيق ص138 وص184؛ ذلك أن الكتابات الأجنبية كانت تدسّ السم في العسل، وتروج للدعاية الغربية بنشر مفاهيم مغلوطة عمدًا تصوّر العرب على أنهم تجار رقيق بدواعٍ استعمارية خبيثة، اتضح ذلك لاحقًا في الصراع الأوروبي البريطاني والألماني والبلجيكي على استغلال ثروات بلدان إفريقيا الشرقيّة، وتقاسم ممتلكات سلطان زنجبار خلال النصف الثاني من القرن 19م.
وإضافة إلى ذلك ركّز محتوى الكتاب على موضوعات ذات صبغة حضارية تمثل جسرًا مشتركًا بين الثقافتين العربية والإفريقية مثل موضوع اقتصاد القرنفل ص66، ومقال التبادل المعرفي العُماني ص112 فضلًا عن تخصيص فصل بأكمله وهو الفصل الرابع الذي تناول الإرث العُماني في حاضر شرق إفريقيا ص211-297.
بالنسبة لهوامش موضوعات الكتاب فقد وُضعت في نهاية كل فصل مما يمكن القارئ من متابعة القراءة بشكل متواصل دونما الحاجة إلى النظر إلى الهوامش؛ إلا أنه يُلاحظ وجود فقرات طويلة إلى حد ما بلا توثيق. كما توجد قائمة بالمصادر والمراجع التي تمت الاستعانة بها في كل فصل على حد سواء للمادة العلمية أو الصور المستخدمة وإن كان من الصعوبة التمييز بين مصدر كل صورة مضمّنة في محتوى الكتاب.
خاتمة الكتاب عُنونت بـ “هجرة أم استعمار” ويبدو لي أنّها خاتمة تجيب عن أية تساؤلات تتعلق بهدف ومقصد هذا الكتاب، وفسرّت بجلاء طبيعة الوجود العُماني في منطقة إفريقيا الشرقية وهل يُمكن اعتباره استعمارًا بالمفهوم الحديث؟ كما تروج له بعض الكتابات المغرضة التي تهدف إلى تسميم علاقة العُمانيين بسكان تلكم المناطق. بشكل عام تضمّن الكتاب رسائل حضارية مهمّة أكدت على طبيعة تلك العلاقة وخصوصيتها ونوعيتها في ذات الوقت. فالتواصل التجاري الحضاري مع المنطقة قديم جدًا، والهجرات العُمانية لم تنقطع طيلة الحقب التاريخية، والمستوطنات العُمانية متوزعة على طول ساحل إفريقيا الشرقي، وامتدت إلى داخلية إفريقيا وهذا ربما يجيب على تلكم التساؤلات. ومما يُلفت النظر في التاريخ الحديث نقل السلطان سعيد بن سلطان بلاط ملكه إلى زنجبار عام 1832م حيث استقر فيها لأكثر من عقدين من الزمان، وأصبح يدير شؤون دولته من إفريقيا. وبسبب طبيعة العُمانيين المنفتحة على الآخر فقد انتشرت ظاهرة الزواج من مختلف الأعراق الإفريقية مما ساعد على تأسيس مجتمع مندمج ذي لغة وثقافة مشتركة وهي السواحيلية، وبالتالي فإنّ العُمانيين هم مكوّن أساس للمجتمع السواحيلي.
كلمة أخيرة؛ في هذا الإطار هنالك سؤال جوهري يطرح نفسه بصورة ملحّة.. هل انتهت علاقة عُمان مع مناطق إفريقيا الشرقية بعد الأحداث السياسيّة عام 1964؟ وللإجابة عن هذا السؤال نستطيع القول وبثقة كما ورد في خاتمة الكتاب: إنّ “العلاقة بين عُمان وشرق إفريقيا لم تنقطع بشكل يتعذر معه استردادها، فعُمان حاضرة في شرق إفريقيا حضور شرق إفريقيا في عُمان”.
الهوامش
المصادر والمراجع:
تاجر يوناني مجهول. الطواف حول البحر الأريثري، ترجمة د.أحمد إيبش، (أبوظبي: هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، 2014).
الفارسي، عبدالله بن صالح. البوسعيديون حكام زنجبار، (مسقط: وزارة التراث القومي والثقافة، 1994).
المحذوري، سليمان بن عمير. زنجبار في عهد السّيد سعيد بن سلطان (1804-1856)، (دمشق: دار الفرقد، 2014).
المغيري، سعيد بن علي. جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار، (مسقط: وزارة التراث القومي والثقافة، 2001).
النعُماني، سعيد بن سالم. الهجرات العُمانية إلى شرق إفريقيا، (دمشق: دار الفرقد، 2012).
وزارة التراث القومي والثقافة. عُمان وتاريخها البحري، (مسقط: مطابع النهضة، 2002).
Bennett, Studies in East African History,(Boston: Boston University Press, 1963).
Gray, History of Zanzibar from the Middle Ages to 1856,(London: Oxford University Press, 1962).
Hollingsworth, Zanzibar Under The Foreign Office 1890-1913,(USA: Greenwood Press Publishers, 1975).