لأن المكان يشغل حيزا واضحا في تجربة الشاعر عادل الكلباني لذا فإنه يضع عند العتبة الأولى لنصه عنوانا إشاريا دالا مستقى من مكان ما في محيطه , وهكذا يعمد الى وضعه في العنوان فبعد أن أصدر مجموعة قصصية عنونها ب (الحصن الأسود) الذي هو مكان أثري يقع في ولاية عبري ونشر عدة نصوص سردية تمتزج بسيرة المكان حملت عنوان (مقنيات) وهي قرية عمانية أمضى بها طفولته لاهيا في دروبها ومقابرها , أقول :نشر شعرية حملت عنوان (بيت السيح) من دار الفرقد بدمشق وقد تضمنت المجموعة 114نصا شعريا قصيرا مؤكدا قيمة المكان وما تشكله هذه القيمة في الذات والذاكرة فترد في مجموعته أماكن لها دلالات شخصية وعامة :الجولان ,جبل الهيام ,المجيديرة , العراق , مقنيات ,سيع «إحدى قرى الرستاق»، دجلة والفرات وفلسطين
وقد لجأ في نصه (فلسطين) الى التورية ففلسطين في النص إسم إبنة الشاعر التي رحلت محلقة في السماء:
«حلقت في السماء
رأت طائرا أخضر
يخترق الغيوم»
وكما جعل الشاعر بدر شاكر السياب من منزل جده «منزل الأقنان» عنوانا لواحد من أبرز دواوينه، حيث إحتفى بالمكان الأول , بيت الطفولة , فإن الكلباني يحاول أن يجعل من (بيت السيح) مكانا يعيده الى سنوات مضت فهو يقول في نصه (بيت السيح):
الجمرة التي التهبت
ذات طفولة
تعاود حريقها كل مساء
k k k
من فوق سطحك يابيت السلالة
سطعت سماء أخرى
تبتهل كخنجر أزرق
كل صباح
k k k
كان يناجي النجوم السافرة
ضياؤها في زرقة السماء
وتلمع العتمة فوق
وتجول عيناه في المكان ليمسك في تفاصيله فالمكان هنا ممتليء بالطبيعة التي تحتشد في ذات الشاعر كما كان يرى الشعراء الرومانسيون الذين تعبدوا طويلا في محرابها , ولايرى الكلباني غيرها , حيث تغيب الكائنات وحتى طائر النورس الذي ورد في نصه (إنكسار النوارس) يمثل معادلا موضوعيا لحالة الإنكسار التي يعيشها الشاعر :
«تسلق الغروب في ضيائه الأخير
متصدعا كالنجيع على قمة جبل شاهق
مشتعلا بالجراح
خلف الجبل كان الموج
يصفق على خبطة
جناح نورس مكسور»
ويواصل حواره مع الطبيعة وعناصرها فيخص جبل الهيام المشهور في قرية مقنيات بنص حمل إسم الجبل عبر من خلاله عن نظرة سوداوية للوجود حيث يقول:
«منذ حلق الغراب بنعيبه على جبل الهيام
الرابض كالجبروت
تكسرت كل نصال الضوء في جسده
يبتل صخره بالعواصف
التي حركت الأشكال
سواه
الأشجار قصمتها الصواعق
في مساء مطير
والبيوت المهدمة أنقاضها في الخرائب
وسلالة أبادتها حروب ونهايات»
والمتتبع لنتاجات الكلباني في «سلالة أسف وجراح» كما يرد في عنوان أحد نصوصه , يلاحظ هيمنة هذه النظرة على معظم كتاباته الشعرية والسردية , كاشفا عن ثورة تعتمل في داخله , معبرا عن ضيقه بالوجود, وهو ضيق له مبرراته ففي أول نص في المجموعة (الكسيح) يضع مفتاحا من مفاتيح هذه النظرة :
«لا أحد يحمل اليتم من فوق بابي
بابي الذي قصفته الريح
ذات نهار بهيج
لم تختف شمسه حتى اليوم
وظل واقفا مستندا على جبل من جراح
لم يتغير شيء في تقاسيمه الرثة
عدا أن الأقدام غيرت الاتجاه»
وتتكرر صفة اليتم في نصه «اليتيم»:
«طرق الباب سطع الحنين
كبزوغ فجر
يبتل زجاجه بالبياض
لم يكن بالداخل أحد
لم تكن سوى ذكريات»
,وعلى غرار الشعراء الرومانسيين يحن الى زمن الطفولة الذي تسرب من أيامه وذاكرته :
«أومضت بروق في السماوات
وطافت غيوم فوق السطح
وهدر الرعد مرارا
أبدا لم يكن طعم هذا المطر
مثل قطرات الطفولة»
لكنه بكل يقين يقول «سيأتي زمن يقودني الى الطفولة» ذلك لأن عينيها ترعى زرقة السماء:
مستحضرا النخل الأخضر
العتيق ينوس في رياح الصبا
مشرقة كبروق الصيف
مستذكرا أطياف الطفولة يوم تركناها
وحيدة في المواسم
رعدها البعيد يشرخ الصدر بالحنين»
وينطلق ممجدا مظاهر الطبيعة منشدا لها في نصه «سلالة أسف وجراح»:
«تبارك النبق الذي أنجبته محنة الرعد
وترنح في العواصف
متدحرجا بالعصافير»
ويتساءل في نصه «مقنيات فاتحة القلب» الذي عاد به الى مقنيات قرية طفولته التي «تشتهر بحصنها الأسود الذي بناه الملك النبهاني فلاح بن محسن في سنة 792هـ» حيث يقول:
أين ترحل عن قرية تسكنك منذ الطفولة؟
أحن الى بيتك الطيني وسعف النخيل
الى حوش دارك
وحين يقف عند بيت الطين على يمين الشارع الترابي في نصه «الهديل الأخير» فإنه يراه مغطى بالقذارة محاطا بأسيجة الخشب:
رأيته هذا المساء
مزارا للخراب الأبيض كالكفن
الطير غرد على شجر الحنين
شجر حزين يألفه اليمام»
وحين يلتفت الى ماحوله فإنه لا يرى غير الرموز التاريخية :الحجاج بن يوسف الثقفي ,معاوية بن أبي سفيان,يزيد بن معاوية ,الحسين بن علي وينظر الى الشيخ أحمد ياسين رمزا معاصرا
لكنه مع ذلك يخص الشاعر (سماء عيسى) بنص يحمل إسمه :
القادم من الصحراء
وحيدا ….
مكتظا بذاكرة الرمال
كدمع أصفر قطفته الأحداق
ولوحت به الريح
خريف لا يعرف الهدوء
لا نبوءة العربي أنقذته من التيه
ولا أسفار المسيح»
إن «بيت السيح» تجربة تفصح عن شاعر يحمل هما يحاول من خلال الكتابة أن يسقط هموم الذات وتجلياتها على المكان الذي يحتويه , هذه التجربة تستحق التأمل وفك شفرات النصوص .
عبدالرزاق الربيعي شاعر وكاتب عراقي يقيم في عُمان