اختلف العلماء في تحديد موقع بلاد بونت خاصة أن المادة العلمية التي نعتمد عليها في ذلك الموضوع نادرة ، ومما دعى العلماء الى الاهتمام بهذا الموضوع ، ان تلك البلاد كانت هي المصدر الأساسي للبخور، وخاصة النوع الجيد منه ، والذي كان يطلق عليه المصريون اسم "عنتي – عنتيو وادج "، وكان البخور لدى القدماء عنصرا أساسيا وهاما، حيث كانوا يستخدمونه في الاحتفالات والشعائر الدينية وفي القصور والمعابد والمقابر مما كان يدعوهم الى بذل أقصى مجهوداتهم للحصول عليه ، ولما كانت الآثار المصرية لم تشتمل على أية إشارة واضحة تسهل تحديد موقع بلاد بونت فان المادة الأساسية التي اعتمد عليها العلماء في تحديد موقع بلاد بونت والتي اعتمدنا عليها نحن أيضا في دراستنا لهذا الموضوع – هي:
1- دراسة للأصل اللغوي لكلمة "بونت ".
2- دراسة النقوش التي عثر عليها على الآثار التي توضح معالم تلك البلاد:
أ – الملامح الرئيسية لسكان بلاد بونت .
ب – أنواع الهدايا التي كان يحملها سكان تلك المناطق .
ج – أنواع النباتات والحيوانات التي كانت مصاحبة لسكان تلك المنطقة .
د – أشكال المنازل التي كان يقيم فيها سكان تلك المنطقة .
ويمكننا أن نوضح أن الملكة حتشبسوت قد نقشت على جدران معبدها في منطقة الدير البحري بالبر الغربي لمدينة طيبة (الأقصر حاليا) تفاصيل رحلتها الى بلاد بونت وسوف نناقش تفاصيل هذه النقوش والتي ستساعدنا في تحديد موقع بلاد بونت .
وقبل أن نبدأ في سرد آرائنا في تحديد موقع بلاد بونت يمكننا أن نستعرض آراء العلماء في هذا الصدد من ملخص للادلة التي اعتمد عليها كل منهم ، وقد قام الأستاذ الدكتور عبدالمنعم عبدالحليم بإعداد ملخص لذلك في مقال له بجمعية الآثار بالأسكندرية عام 1974 ومجملها أنها حددت بلاد بونت بالمنطقة الممتدة من بورسودان الى شمال اريتريا على ساحل الصومال مؤيدا بذلك "كتشن " Kitchen (1) الذي تصدى برا`يه هذا لرأي "هيرتسوج " Herzog (2) الذي خالف الآراء التي سبقته ، إذ قال ان بلاد بونت تقع في المنطقة السودانية المتاخمة للحبشة على النيل الأبيض والنيل الأزرق ، وأن المصريين لم يصلوا الى بلاد بونت عن طريق البحر بل عن طريق النيل ، في حين أن "كرال " Krall كان أول من نادى بأن بلاد بونت تقع في المنطقة الممتدة من سواكن الى مصوع ، وكان اعتماده في ذلك على أن هذه المنطقة تنتج الصمغ العربي، وقال ان المصريين يستخدمون الصمغ العربي في البخور، ثم ثبت بعد ذلك أنهم كانوا يستخدمون اللبان كبخور عنقيو وليس الصمغ (3)؛ وأضاف "كتشن" Kitchen تعديلا على رأيه بأن بلاد بونت كانت تقع على النيل الأبيض ولكنها كانت تمتد شرقا حتى ساحل البحر الأحمر، معتمدا في ذلك على المقارنة بين أشكال أكواخ أهالي بلاد بونت وبين تلك الموجودة حاليا في مناطق النيل الأعلى كالدنكا والبونجو.
وقد تتبع "كتشن " Kitchen السفن المصرية في رحلتها على طول ساحل البحر الأحمر من السويس ثم الى القصير الى موانيء بلاد بونت جنوبا. ونستخلص من رأي "كتشن " Kitchen ضرورة وجود أشجار البخور قرب ساحل البحر، وذلك من واقع النصوص المصاحبة المدونة داخل رسم الخيمة التي كان يتم فيها تبادل السلع والمنتجات التجارية مع أهل بلاد بونت ، حيث يترجم النص : "نصبت خيمة الرسول الملكي ومعه جيشه بين مدرجات البخور في بونت على شاطيء البحر"(4).
وقد قام باحث علم النبات "هيبر" Hepper (5) بدراسة أشجار اللبان (الكندر)، وخرج من دراسته بأن أشجار الكندر لا توجد على السواحل الآسيوية الا في منطقة بعيدة الى الشرق من خليج عدن هي منطقة ظفار وأشار أيضا أن هذا الكندر من نوع Boswellia sacra وأيده في ذلك الأستاذ الدكتور عبدالمنعم عبدالحليم (6) في اتخاذ ذلك حجة لتحديد موقع بلاد بونت بأنه لا يمكن أن يكون في منطقة آسيوية ، وذلك نظرا لبعد هذه المنطقة عن متناول السفن المصرية التي تخاطر بعبور البحر الأحمر أو بوغاز باب المندب ، ويرى أنه من الأسهل للسفن المصرية الوصول الى ساحل الصومال ، في حين أننا نرى عكس ذلك ، وهو أن المصريين اتجهوا بسفنهم الى جنوب الجزيرة العربية ، حيث أن المصريين حينما بداوا رحلاتهم الى بلاد بونت ، منذ عصر الأسرة الخامسة في عهد الملك ساحورع (7) ، كانوا لا يصلون في ذلك الوقت الى بلاد بونت ، وانما كانوا يعتمدون في حصولهم على البخور على الوسطاء من بلاد اليمن ، مما كان يؤدي الى رفع ثمنه كثيرا، كما ذكروا ذلك في نقوشهم ، وحتى يحافظ الوسطاء على دورهم كانوا يصفون المخاطر التي يتعرضون لها للوصول الى أماكن اللبان، وهي أماكن وعرة يصعب الوصول اليها وتحميها أفاع مجنحة ، ونحن نرى أن هذا الوصف هو وصف للطريق البري الذي يصل بين بلاد اليمن وبلاد ظفار: وقد لاحظنا أنه يطلق اسم "بنت " باللهجة "الجبالية " الحالية على الأشياء المخيفة أو الأماكن المرعبة ، ومن هنا ربما يكون المصريون قد أطلقوا نفس الاسم "بونت " أو "بنت " على تلك البلاد بنفس المعنى الذي وصفه لهم اليمنيون.
وعندما اكتشف العالم الأثري "ماريت " Mariette (8) رسوم رحلة بلاد بونت المصورة على جدران معبد الدير البحري للملكة حتشبسوت وذلك في عام 1877، خرج علينا برأي حاسم بأن بلاد بونت تقع في افريقيا وحدد موقعها بشمال الصومال ، واستند في رأيه على الآتي:
أ – تمثيل الزرافة في رسوم بونت ، معتمدا في ذلك على أن الزراق حيوان افريقي ولم يكن في أي وقت من الأوقات من الحيوانات الآسيوية.
ب – شكل مساكن أهالي بونت المقامة على أعمدة تشبه المساكن الافريقية .
ج – صفات زوجة زعيم بونت الجسدية هي صفات افريقية .
د – التحلي بحلقات من المعدن والتي توجد على ساق زعيم بلاد بونت ، تشبه حلقات المعدن التي تستخدم اليوم للتحلي عند القبائل الافريقية مثل قبائل البونجو بافريقيا.
هـ- نمو أشجار البخور على ساحل الصومال .
الطرق التي كان يسلكها المصريون للوصول الى بلاد بونت
نعلم أن المصريين كانوا يطلقون اسم "بونت " بمعنى عام وآخر خاص ، فكانت بالمعنى الخاص هي منطقة أشجار الكندر (اللبان ) المصورة على جدران معبد الملكة حتشبسوت في منطقة الدير البحري، أما معناها العام فكان المقصود به تلك المناطق التي كانت تمتد من سواحل السودان شمالا وحتى أقصى نقطة عرفها المصريون جنوبا سواء جنوب الجزيرة العربية أو منطقة الصومال .
وقد قسمت القوائم المصرية مناطق وشعوب الساحل الافريقي للبحر الأحمر الى ثلاث مناطق:
أ – منطقة خاسخت 0 وهي تبدأ من ميناء أبوشعرى التبلى (ميوس هرموس ) جنوب جمصة الى ميناء رأس برنيكى(9).
ب – منطقة علبة : وهي المنطقة الممتدة من رأس برنيكي الى سواكن وكانت تسكنها القبائل التي عرفها الاغريق باسم "التروجلوديت " أصحاب الأقواس – البيجا – البشارين .
ج – منطقة بونت : وهي المنطقة التي تمتد من سواكن الى أقصى نقطة عرفها المصريون ، سواء في جنوب الجزيرة العربية أو ساحل الصومال .
وقد ناقش "كتشن " Kitchen (10) كل الأراء التي اختلف فيها العلماء في مسلك السفن المصرية حتى الوصول الى بلاد "بونت " والتي حددها بمنطقة ساحل الصومال ، وهي نقطة الاختلاف معه ، ولكننا لا نختلف معه في الطريق الذي سلكه المصريون للوصول الى بلاد بونت وهو كما وصفه بدقة يبدأ من السويس الى وادي الحمامات ، حيث كانوا يسلكون النيل في هذه المنطقة ، ثم يسلكون بعد ذلك طريق وادي الحمامات حتى يصلوا الى ميوس هرموس. ولقد كانت هناك بعض الجماعات الآسيوية التي استقرت في وادي الحمامات وتركت آثارها، حيث تم العثور على نقش عربي جنوبي على الصخور الموجودة بالقرب من قصر البنات في منطقة وادي المواخير الواقع عند منتصف وادي الحمامات (11)، وهذا يدل على دور وادي الحمامات كممر للصلات والمؤثرات الحضارية القادمة الى مصر عن طريق البحر الأحمر، علاوة على أن وجود ذلك النقش دليل على المؤثرات الحضارية القادمة من الساحل الآسيوي عن طريق البحر الأحمر الى مصر .
ولكننا نرى من ناحيتنا أن بلاد بونت تقع في جنوب الجزيرة العربية وبالتحديد في منطقة "ظفار" وسوف نوضح ذلك لعدة أسباب :
أولا : وجود مدينة "شصر" التي تقع شمال ثمريت حيث توجد منطقة "أوبار" التي مازالت أنقاضها مدفونة تحت الرمال ، والتي كشف عنها حديثا وذلك عن طريق الأقمار الصناعية التي كشفت عن المسارات القديمة لقوافل الجمال ، التي كانت تنقل البخور منذ القدم ، وقد أظهرت صور الأقمار الصناعية الفرنسية والأمريكية مسارات طويلة تصل الى أكثر من كيلومتر لقوافل الجمال القديمة التي اندثرت تحت الرمال ، وكانت كل هذه المسارات تصل الى نقطة واحدة هي مدينة "شصر" وقد ساعد أيضا على اكتشاف تلك المنطقة الخرائط القديمة للجغرافي الاغريقي بطليموس . شكل رقم ( 1) واكتشاف هذه المدينة في ذلك المكان يعضد رأينا في أن بلاد "بونت " كانت تجاور منطقة "شصر" حيث أنه من المعتقد أن أوبار هي "إرم" التي ورد ذكرها في القرآن الكريم "إرم ذا ت العماد" (12). وقد وردت أخبار عن عاد ونبيهم هود في القران الكريم ، كيف عصوا نبيهم ، وكيف استكبروا في الأرض فعاقبهم الله أشد العقاب ، إذ أرسل عليهم ريحا صرصرا وصواعق دمرت مساكنهم وقضت عليهم وأصبحوا عبرة لمن اعتبر. وفي ذكر عاد (13)، يذكر المؤرخون العرب انه كان رجلا جبارا عاتيا عظيم الحلقة وهو عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح وينسبون الى ابنه شداد ابن عاد إنشاء مدينة "إرم " واختلفوا في تحديد موقع ، هذه المدينه ، ويذهب بعض المؤرخين العرب(14) الى القول بان مساكن عاد كانت تقوم في "الأحقاف " من اليمن ، بين اليمن وعمان الى حضوموت والشصر وذلك استنادا الى قوله تعالى "واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه الا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم "(15). ولكن القران الكريم لم يحدد موقع "الأحقاف " بالنسبة الى شبه الجزيرة العربية وانما حدده المفسرون : بما أن لفظة الأحقاف تعني الرمال فقد اندفع معظم المؤرخين يلتمسون مواضعهم في الصحراء (16).
ولكننا عندما ننظر الى اللوحة الأساسية التي اعتمدنا عليها في تحديد موقع بلاد بونت (شكل2) وهي رسوم بلاد بونت في معبد الملكة حتشبسوت في الدير البحري نرى في المنظر الذي يصور عودة الحملة الى مصر السفن المحملة وحقائب البخور مرصوصة على ظهر السفن وأشجار البخور في قدورها مزهرة والقردة والنسانيس تتسلق أمراس السفن وغير ذلك والنقش المصاحب لذلك المنظر يقول العودة الى الوطن ، ويلي هذا تقدم حاملي الهدايا والبخور أمام أسمى الملكة داخل خرطوشين فوق علامة «السماتاوي» وهي كلمة مصرية تعني توحيد الأرضين (المقصود بها أرضا الشمال والجنوب بمصر) ويتبقى بعد ذلك من الرسم صفان، الصف الأول مكتوب أمامه عظيم عظماء ( أي رئيس ) ارم وفي نهاية الكلمة الهيروغليفية نجد الرسم المخصص عبارة عن علامة الجبال ، أي أنها منطقة تحيط بها الجبال .
أما في الصف الثاني فنجد مقدمي الهدايا من بلاد "بونت " يتقدمهم زعيمهم مكتوب أمامه عظيم عظماء بونت (شكل 3).
وفي نهاية الاسم أو الكلمة ، كتب المخصص الذي يأتي في نهاية الكلمة ليحدد معناها، عبارة عن علامة الجبال ، مما يدل على أن بلاد بونت تقع في منطقة جبلية أو تحيط بها الجبال وتكون بجوار "إرم ".
ثانيا: تصوير ملامح أهل بلاد بونت بالملامح الآسيوية ، هذا دليل قاطع على أنهم من أهل جنوب الجزيرة العربية بملامحهم الآسيوية : وكذلك تصوير اللحية ، التي يمتاز بها أهل هذه المنطقة وما يزالون يحافظون عليها الى وقتنا الحاضر. وقد استطاع فنان تلك الحملة أن يدون أدق التفاصيل فمثلا صور أهل بلاد بونت وهم يضعون الخنجر في وسطهم أمام الخصر، وهذا الخنجر هو الخنجر المستقيم المعروف بالخنجر اليمني (شكل 4): فاللحية والخنجر مازال أهل تلك المنطقة يحافظون عليهما رغم مضي آلاف السنين ، وهي عادة توارثوها عن الأجداد، وهي سمة من سمات أهل هذه البلاد في الحفاظ على العادات والتقاليد القديمة ، فنرى في الوقت الحاضر أهل عمان باللحية ويضعون الخنجر في المناسبات الرسمية ، وليس كما أدعى البعض أن الفنان المصري تأثر ببيئته ونسج من خياله ملامح أهل تلك المنطقة وهذا يخالف ما نعلمه عن مدى صدق الفنان المصري الذي يصور أدق التفاصيل ، وانه لا يخط شيئا إلا وله أساس من الصحة .
وعلاوة على ذلك ، فقد صور لنا الفنان المصري تفاصيل الهدايا والتي كان من ضمنها الجرة، وهذه الجرة معروفة لدى أهل عمان اليوم حيث يخزنون فيها الشحوم والدهون ويطلق عليها باللهجة "الجبالية " في المنطقة الجنوبية اسم (وثبت ). ويضاف الى ذلك دليل آخر أيضا هو نوع من الأطعمة التي كانت ضمن الهدايا المقدمة الى المصريين وهو ما يطلق عليه حاليا اسم "العصيدة ".
ثالثا : المساكن : فقد صورت مساكن أهل بونت على شكل أكواخ نصف دائرية مقامة فوق أعمدة مما جعل «هرتسوج Herzog (17) يتخذها دليلا لتحديد موقع بلاد بونت بمناطق النيل الأزرق والنيل الأبيض ؛ أما الأستاذ الدكتور عبدالمنعم عبدالحليم فيرى أنها في الصومال، وخاصة أن أشكال هذه الأكواخ تتشابه الى حد كبير مع أكواخ سكان شمال الصومال في الوقت الحاضر (18).
في حين أننا نرى أن هذه الأكواخ مازال البعض منها يستعمل الى وقتنا الحاضر في المناطق
الجبلية الجنوبية لعمان (في ظفار)، ومنها ما هو ثابت ويطلق عليه باللهجة الجبالية في المنطقة الجنوبية اسم استريت ، ومنها ما هو متنقل ويطلق عليه اسم خيدار (شكل 5).
علاوة على ذلك فإن الأشجار التي صورت أمام أكواخ أهل "بونت " على جدران معبد الملكة حتشبسوت بالدير البحري، فإن البعض يرى انها اشجار نخيل الدوم (19) وليست نخيل البلح ، وقد أيدهم في ذلك «كتشن» Kitchen (20)، ولكن الدكتور عبدالمنعم عبدالحليم يرى أنها نخيل البلح ، ويعتمد في رأيه على تفرع جذع الشجرة الى ثلاث شعب من أسفل أي قرب الأرض. ولكننا نرى من فاحيتنا أنها ليست نخيل الدوم ولا نخيل البلح ، وانما هي شجر النارجيل "جوز الهند" الذي لانزال نواه الى الآن في منطقة خور روري على ساحل بحر العـرب (أنظر شكل 6)
رابعا : الأسماك : أما بالنسبة للاسماك التي صورها المصري القديم ، والتي تدل على براعته ودقة ملاحظته في إخراج صورة طبق الأصل من الأسماك الموجودة في البحر العربي، ووصل من درجة اتقانه الى تصوير أربعين نوعا من الأسماك والحيوانات البحرية ، ومن بين هذه الأسماك حوالي خمس سمكات من الأسماك النهرية ، مما دفع العلماء الى الاستنتاج أن المكان الذي رست فيه سفن الملكة حتشبسوت ، كان في موقع تختلط فيه مياه البحر بمياه نهر صغير، وأخذ العلماء في البحث عن وجود ذلك النهر الذي يصب في البحر العربي فوجدوا أن هناك مصب نهر معروف باسم "جل وين " على ساحل الصومال وهو معروف في العصور الكلاسيكية باسم «نهر الفيل » ولكننا من ناحيتنا نرى تفسيرا آخر لوجود بعض الأسماك النهرية بين الأسماك البحرية ، عند شاطيء جنوب الجزيرة العربية وبالأخص عند ساحل ظفار؛ حيث أنه يلاحظ اختلاف درجة حرارة المياه السطحية عند ساحل ظفار وذلك خلال فترة الصيف تبعا للقرب أو البعد من خط الساحل ، وبما أن كثافة المياه تتأثر بدرجة حرارتها، وهذا يؤدي بدوره الى انخفاض درجة الملوحة في هذا المجال ، وهذا بالتالي يؤدي الى وجود بعض الأسماك المختلفة عن الأسماك البحرية والتي تتشابه مع الأسماك النهرية (21).
خامسا : أما بالنسبة لتمثيل الزرافة في مناظر رحلة بونت والذي دفع الكثير من العلماء وعلى رأسهم هارييت الى الاعتقاد، بانها لابد وان تكون في بلد افريقي، فاننا حينما نرى المنظر المصور في مقبرة الوزير رخميرع (الأمير الوراثي) في عهد الملك تحوتمس الثالث (22) وهو يتسلم الجزية المختلفة الأنواع التي أحضرت للملك من كل الأقطار الأجنبية ، وقد قسم المنظر الى خمسة صفوف ، كل صف يشمل بلدا بعينه كالتالي : بلاد بونت – الكفتيو – النوبة – الرتنو – ثم صور الأسرى(شكل 7).
ففي الصف الأول : نرى الوفود القادمة من بلاد بونت حاملة معها هداياها، وهي تقريبا مثل الهدايا التي نراها ممثلة على معبد الملكة حتشبسوت ، ونرى المصريين ينقلون شتلات من نبات الكندر (اللبان ) كما فعلت الملكة حتشبسوت من قبل ؟ ولكن يبدو أن زراعته لم تنجح في مصر، ومع ذلك لم يهمل كلية ، فقد عثر على نبات من هذه الفصيلة في مقبرة رخميرع (23)،
والملاحظه الهامه في هذه المجال 1ن هذا المنظر كان يخلو تماما من تصوير حيوان الزراق ضمن أنواع الهدايا الأخرى.
أما الصف الثالث : والذي يمثل وفود بلاد النوبة فيشتمل على المحاصيل التي تنتجها تلك البلاد أما الحيوانات الحية التي جاء بها الوفد فهي تشمل فهدا ونسناسا وزرافة .
وعلى ذلك يمكننا أن نفسر وجود الزرافة في رحلة بلاد بونت والمصورة على جدران معبد الدير البحري للملكة حتشبسوت بأنهم أخذوها معهم من بلاد النوبة في أثناء رحلتهم ، حيث أنه من غير المعقول أن رحلة طويلة كهذه لم يقطعها المصري مباشرة ، وانما كان يتوقف في بعض البلاد، وكان يحمل معه بعضا من الأشياء الغريبة التي كان يجدها في تلك البلاد التي كان يتوقف فيها، ثم يعود بها الى مصر ضمن الأشياء التي حملها من بلاد بونت . ولذلك نرى زرافة واحدة فقط ممثلة ضمن رسومات بلاد بونت ونراها وهي تأكل من الأشجار ، وهذا دليل على أن المصري وجدها في إحدى البلاد الواقعة على ساحل البحر الأحمر والتي كان يستريح فيها، ثم أخذ منها ذلك الحيوان (الزرافة ) الغريب بالنسبة له ، ونقل معه هذه الزرافة الى بلاد بونت .
ومما يسترعي النظر أننا نلاحظ من خلال المنظر أنه كانت تربط مصر ببلاد بونت وبلاد الكفتيو (كريت ) علاقات طيبة وتجارية على وجه خاص ؛ ولم تكن ضمن البلاد التي فتحوها بحد السيف (أي بالحرب)، وكان لزاما على أهلها أن يقدموا الجزية طوعا أو كرها مثل بلاد النوبة والأقطار الآسيوية ، ونرى هذا واضحا من مناظر الأسرى الممثلين في الصف الخامس بكافة أجناسهم حيث أنه لم يتضمن المنظر صور أسرى لا من بلاد بونت ولا من بلاد كريت .
والكندر في الحقيقة ليس إلا اللبان المألوف لنا وأجود أنواعه في التبخير وهو ذلك النوع الذي يطلق عليه في اللغة العربية الدارجة اسم اللبان الذكر، وكلمة اللبان هي ذات أصل عربي قديم وردت في نقوش الخط المسند،وقد انتقلت هذه الكلمة القديمة الى اللغة اليونانية فصارت Libanos وان كان اسمه في بعض اللغات الأوروبية مختلفا عن هذه الكلمة فهو في الانجليزية يسمى Frankincense أما كلمة كندر فهي حضرمية الأصل .
وتوجد في ظفار أربعة أنواع من الكندر تختلف باختلاف المناطق ومدى ارتفاعها وابتعادها عن الساحل أجودها اللبان " الحوجري " الذي تنمو أشجاره في الأجزاء الشرقية من المنطقة ويليه في الجودة النوع الثاني المعروف باسم «النجدي» وتنمو أشجا ره في منطقة "نجد" الواقعة الى الشمال من مرتفعات ظفار الوسطى، أما النوع الثالث فهو الذي تنمو أشجاره قرب ساحل ظفار ويسمى "شعبي" وهو أقل الأنواع جودة يليه النوع الذي ينمو على جبال القراء الممتدة وراء الساحل ويسمى "شزرى" وهو نوع جيد. ثم النوع الرابع الذي ينمو فوق المرتفعات وراء
الجبال ويسمى "نجدي" وهو نوع جيد أيضا (24). ويلاحظ أن الظروف الطبيعية تضافرت في منطقة ظفار لتجعل من كندر ظفار نوعا ممتازا مما أدى الى رواجه الكبير في أسواق العالم القديم، فالكندر يجود إذا نمت أشجاره فوق مناطق مرتفعة شحيحة المطر ولكن في بيئة ملبدة بالسحب، وهذه الظروف تتوافر في ظفار لأن الرياح الموسمية الجنوبية الغربية المحملة بالرطوبة من جراء مرورها فوق البحر عندما تصل الى خط الساحل تتسبب في تكوين ضباب وطبقات من السحب المتراكمة على منحدرات جيل القراء فتتوفر بذلك الظروف الثلاثة الملائمة لنمو أشجار الكندر الجيد، وهي الارتفاع والجفاف النسبي والجو الملبد بالسحب والضباب . ومن الملاحظ أيضا أن طريقة جمع محصول الكندر في الصومال هي نفس الطريقة المتبعة في ظفار تقريبا وهي شق الشجرة في شهر فبراير وتستمر عملية الشق طوال شهري مارس وابريل (25) ويتم طوال هذه المدة جمع المحصول . ويلاحظ أن الأسماء التي تطلق على عملية استخراج الكندر من الأشجار وكذلك أسماء الأدوات المستخدمة فيها عربية الأصل ، مما يدل على الارتباط بين سكان منطقتي نمو الكندر في شمال الصومال وفي جنوب شبه الجزيرة العربية ، فمثلا يسمي الصوماليون عملية شق الأشجار "زرعا" ويسمون الاناء الذي يجمعون فيه العصارة المتجمدة "زمبيل " (26) ويلاحظ أيضا أن الأداة التي كانت تستخدم في شق الاشجار لها اسم واحد في كل من الصومال وظفار هو "المنقف " وهي كلمة حضرمية الأصل ، والمنتف عبارة عن أداة ذات يد خشبية ورأس حديدي مستدير الشكل ويلاحظ أيضا أن مناطق انتاج الكندر قديما هي نفس مناطق انتاجه حاليا.
وقد تحدث الكثير من الكتاب الكلاسيكيين (27) عن مناطق انتاج الكندر، ونلاحظ أنهم ميزوا بين كندر الصومال وبين كندر الجزيرة العربية ، وقد أطقوا على كندر الصومال اسم كندر الشاطيء البعيد، بينما أطلقوا على كندر ظفار اسم الكندر السخاليتي ، نسبة الى الاسم الذي أطلقه هؤلاء الكتاب على خليج القمر، في جنوب ظفار، وهو سخالية سينوس ، وهذا الاسم يرجع في الأصل الى اسم عربي جنوني قديم كان يطلق في نقوش "المسند" على منطقة ظفار وهو (سأكل ) أو (سأكلن ) ويلاحظ أن بقايا هذا الاسم ظلت حتى اليوم في منطقة "الشحر" ومن الملاحظ أن حرف السين في اللغات القديمة يتحول على ألسنة الناس بمرور الزمن الى حرف الشين ، وكذلك حرف اللام يتحول الى حرف الراء ويحدث العكس أيضا (28). وان كانت منطقة الشحر تقع الى الغرب من خليج القمر. ولاشك أيضا أن تسمية كندر الشاطىء البعيد هي الأخرى تسمية عربية جنوبية قديمة ، ومن الواضح أن هذه التسمية كانت من وجهة نظر سكان الجزيرة العربية لكي يفرقوا بين كندر الصومال وبين كندر بلادهم ؟ وكان جزء كبير من لبان الصومال يجلب الى موانيء الجزيرة العربية وخاصة ميناء «المخا» حيث يعاد تصديره الى البلاد الواقعة شمال البحر الأحمر وخاصة مصر وذلك في العصر اليوناني الروماني.
وقد وصف الكتاب الكلاسيكيون أيضا المواني، التي كان الكندر يصدر منها في جنوب شبه الجزيرة العربية في منطقة ظفار وحضرموت ومن الواضح أنه كانت هناك ثلاثة موانيء رئيسية لتصدير اللبان وهي من الشرق الى الغرب : ميناء أطلق الكلاسكيون عليه اسم «موسكا» ومكانه الآن خور روري وهو موقع يسمى في نقوش المسند «سمهرم » أو «سمرم» ثم ميناء «سيجاروس » ومكانه الحالي «رأس فرتك» وأخيرا ميناء "كانا" وهو محور عن الاسم العربي القديم «قنا» ومكانه الآن «بئر علي» (29) اما الطريقه التي كان ينقل بها المحصول ، فكانت تتم بنقله بالقوافل من مناطق نمو أشجاره في الداخل الى ساحل البحر حيث يتم تجميعا في ميناءي "موسكا" و "سيجاروس " ومن هذين الميناءين كان محصول الكندر ينقل بالبحر نحو الغرب الى ميناء «قنا» إما في قوارب أو فوق أطواف خشبية تحملها قرب منفوخة ، وكان هذا النقل يتم خلال فصل الشتاء، ومن الواضح أن سبب هذا التوقيت هو الاستفادة من الرياح الموسمية الشمالية الشرقية التي تدفع هذه القوارب والأطراف من الشرق الى الغرب ومازال هذا التوقيت متبعا حتى يومنا هذا. وبعد وصول الكندر الى ميناء «قنا» كان نقله إما أن يستمر بحرا أو برا بالقوافل الى «شبوه »، العاصمة القديما لدولة حضرموت ثم «تمنع» (هجر كحلان الحالية في وادي بيجان) عاصمة دولة «قتبان » القديمة ومنها الى سائر عواصم الدول العربية القديمة مثل مأرب عاصمة دولة سبا ومعين عاصمة دولة معين القديمة . ومن ثم نرى أن تجارة الكندر كانت تمر بعواصم الدول العربية القديمة . والحقيقة أن كل دولة من هذه الدول كان تحرص اشد الحرص على مرور هذه التجارة الثمينة في أراضيها كما كان من مصلحتها تامينها وضمان استمرارها؟ وكان الميناء الرئيسي لتصدير اللبان هو ميناء خور ووري؟ فشيد ملوكها القلاع والحصون في هذه المناطق لهذا الفرض ، ودليل ذلك العثور على اسم أحد هؤلاء الملوك المسمى في نقوش المسند «إبل – عز» محفورا على أطلال قلعة قديمة في ميناء خور روري. وقد عاش هذا الملك في القرن الأول الميلادي وكان معروفا لدى الكتاب الكلاسيكيين باسم «إليازوس » وقد وصفوه بأنه «ملك بلاد البخور».
ويمكننا أن نستخلص من هذا البحث أن بلاد "بونت " أو «بنت » هي بلاد ظفار الواقعة في جنوب عمان ، وأن الاسم الذي أطلقه المصريون عليها هو نفس الاسم الذي كان يطلقه عليها أهل بلاد اليمن وهو "بنت " والذي يعني باللهجة الجبالية المكان الموحش أو المرعب (شنك بنت عيرت ). ونأمل من الله سبحانه وتعالى أن نكون قد وفقنا في ذلك البحث .
الهوامش
1- K.Kitchen, “Punt and How to Get There" in Orientalia 40, 1971, p 1888
2- R.Herzog, “Punt” in Abhandlungen des Deutschen Archaologischen Instituts Kairo 6, 1968, p 29.
3- J. Krall, Studien Zur Geschichte des AltenAegypten IV, "Das Land Punit" Wien, 1890.
4- R. Herzog, Op. Cit , P. 30.
5- Heper, Arabian and African Frankincense Trees in JEA 55, 1969, p.69.
6- د. عبدالمنعم عبدالحليم: محاولة لتحديد موقع بلاد بونت، مطبوعات جمعية الاثار بالاسكندرية، دراسات اثرية وتاريخية العدد الخامس
14-ابن خلدون : مقدمة – تحقيق د. علي عبدالواحد راني – القاهرة 1957 ~ المجلد 2، ص 35.
15- القرآن الكريم : سورة الأحقاف 46، آية 21.
16 – الهمداني : صفة جزيرة العرب – القاهرة )195 – ص 80: المسعودي : مروج الذهب ومعادن الجوهر – القاهرة 1958 – الجزء 2، ص 40 السيد عبدالعزير سالم : دراسات في تاريخ العرب قبل الاسلام – الإسكندرية 1967- ص 54.
17- Herzog, Punt, Ab. 6, p. 66.
18- د. عبدالمنعم عبدالحليم : المرجع السابق ص 29.
19- Herzog, Op. cit., p. 66.
20- Kitchen, Op. cit., p. 186.
21- Cf. Marine Science and Fisheries Centre, Results of R/V Rastrelliger Acoustic and Travel Survey 1989/1990 for Marine Fisheries Resources of the Sultanate of Oman- Muscat 1991, p. 6-7.
22-د. سليم حسن: مصر القديمة، ج4 القاهرة 1948، ص 572- 583.
23- Cf. Davies, Painting from the Tomb of Rekh-mi-Re at Thebes, New York 1935, pl. 1.
24- عبدالقادر الغساني: أرض اللبان في سلطنة عمان – مجلة حصاد ندوة الدراسات العمانية – المجلد الأول 1980- ص 177- 187.
25- عبدالقادر الغساني، المرجع السابق ص 191.
26- Strabo, Geography, Book XVI; Periplus, Maris Erythraei, p/148 – 149; Pliny, Natural History, Book XII, 54.
27- د. عبد المنعم عبدالحليم : المرجع السابق ص 146 – 147.
28 -وندل فليبس : عمان المجهول – طبعة 1977- ص 197، عبدالقادر الغساني: المرجع السابق – ص 223.
29- د. عبدالمنعم عبدالحليم : المرجع السابق – ص 148.
عاطف عوض الله (أستاذ الآثار بجامعة السلطان قابوس)