كما يليق بكل البدايات الجميلة تنتهي سلسلة «الملهاة الفلسطينية»(١) للشاعر والروائي إبراهيم نصر الله بذورة إبداعية بالغة الشفافية هي روايته الأخيرة والطويلة «زمن الخيول البيضاء». على مدار أزيد من ستة عقود، من نهايات القرن التاسع عشر وتحكم الاستبداد التركي بأهل قرية «الهادية»، مسرح الرواية، وبقية قرى فلسطين، وحتى هبوط ليل النكبة الكبير، ومروراً بالاستبداد البريطاني، نلاحق في هذه الرواية التاريخية الصراع اليائس ضد حصار المرارات والهزيمة القادمة. لا النوايا الطيبات، ولا قصص الحب العفوي، ولا بهاءات جمال الخيول البيضاء التي سحرت فلاحي فلسطين أستطاعت وقف زحف هبوب الحرائق الكبيرة التي سودت لون تراب القرى ولون أسنان الخيول.
«زمن الخيول البيضاء» أوسع بكثير من رواية، وأكثف بكثير من التسجيل الجانبي لوقائع زمن «متشائل». هي رصد الخيل الراكضة بلا توقف لزمن متلاحق الأحداث، أطرافه دول وأمبرطوريات، ومشروعاته أكبر من بساطة ناس القرى وسذاجتهم … وبطولتهم. هي تصوير لذلك التمزق بين مقاومة المستبد التركي، والدير اليوناني الغريب الذي حط على رابية القرية ثم استولى على أراضيها، ثم مقاومة المستعمر البريطاني، وخليفته المستوطن اليهودي الذي سرق أرض القرية وأقام مستعمرته عليها … وأيضا مقاومة خيانات مختار القرية وتواطئه مع كل اولئك الغرباء، وكشف تخاذل الأفندية ومنافقي الانجليز في يافا والقدس. لا يُعطي هذا الإبتسار المخل الرواية حقها، لأن ما هو أهم من تركيبة الأحداث فيها هو براعة التصوير، والجو النابض بدقات القلب. قراءتها تجوال في دروب القرى الصغيرة، ومجالسة أهلها، ومرافقتهم في أسفارهم القصيرة إلى يافا والقدس بحثا عن محام يدافع عن قضية استلاب أرضهم، أو عن قسيس وطني يساندهم في وجه الدير الأجنبي. وهي أيضا، الرواية، خاتمة سداسية قلّبت صور «الملهاة» من «تحت شمس الضحى»، إلى «أعراس آمنة»، إلى «زيتون الشوارع»، ثم «طيور الحذر»، وصولاً إلى «طفل الممحاة». في كل تلك الصور التي قدمتها روايات إبراهيم نصر الله هناك «الحالم» الصغير، ولد، أو شاب، أو شيخ، عاشقة صامتة، أو أم كليمة، أو … عصفور حذر، ثم (هنا) خيل بيضاء تنقب عن صاحبها في بيادر على مد البصر، أولها كعب الفرس وآخرها عين الشمس. ستة أعمال وما زال الحالم يحلم، ينتهي برواية أسمها لوحده سيثير أشجانا لا أمد لها عند أهل ذلك الزمن. يحضنون الحلم كأنه قوة جبروت لا تُقهر. يخبئونه تحت جناحي عصفور حذر أو في جفني خيل أبيض: هو ناتج «الريح» و«التراب» و«البشر».
خيول تفوح عشقاً
لكن ما قصة الروائي مع العصافير والخيول والغزلان التي تطير أو تركض أو تقفز في رواياته؟ في «عصافير الحذر»، حيث «الصغير» بطل الرواية مهووس بالعصافير وصيدها وتربيتها والحديث معها، نتوه في أحايين كثيرة بينه وبين عصافيره. لا ندري إن كنا نلاحق «الصغير» نفسه أو نتابع خطو أقدامه، وركضه في حقول التربة الحمراء قريبا من مخيم الوحدات في عمّان، أم أنا كنا نطير مع عصفور في سرب من تلك العصافير. لكن «الصغير» يدهشنا بمعرفته لغة العصافير ومعرفة أسرارها وإيداع أسراره لديها.
في «طفل الممحاة» يتوقف الديك عن الصياح ليترك لأم فؤاد فرصة أن تجلجل صرختها الجزعة على ولدها لحظة وقوعه. الديك يقطع صياحه لتصيح الأم، وكأن الصيحة واحدة لم تنقطع. هناك يقول الراوي «أنا واحد من الأشخاص الذين يؤمنون إلى حد بعيد بهذا التواصل بين مخلوقات الله وإن إختلفت لغاتها وأجناسها وفصائلها أيضا، …، وأنت مثلي». هنا يكشف الراوي سر إبراهيم نصر الله في تواصله مع هذه الكائنات البريئة. وفي ذات الرواية أيضا يتواصل أهل القرية مع الغزلان الهاربة من صيادي ضباط الجيش الأنجليزي. عربتان عسكريتان تطاردان غزالاً وتخلق أعمدة غبار هائلة ورائها. يهرب الغزال ويقفز ويتوجه إلى أولاد القرية طالباً المساعدة. ثم «يزداد انهمار الرصاص كثافة، تنحني قليلا، دون أن تفارق عينا أخيك غزالا طائرا يتجه نحوه. تعبر طلقة صدره، يهوي، يتجاوزه الغزال، تتبعه العربتان …».
أما هنا في «زمن الخيول البيضاء»، فالخيول هي آيات الجمال التي تصهل مع الريح في بيادر الفلاحين، تغازلهم وتدندن معهم أغانيهم. يميل إليها اليافعون الفائرون فتوة فلا يرون فيها إلا العاشقات المشتهات، فيهمسون في آذانها شيئا ما يصير رابطة السحر بين العاشق والمعشوق. الفرس تكبر بينهم كطفلة صغيرة، يرعونها، ويحافظون عليها برموش العين كعذارء شرفها دونه الدم والغضب. عندما تكون الفرس من «الأصائل» فمعنى ذلك مزيدا من الحماية والخوف خشية أن يمسها حصان عابر لا ينتمي إلى نفس الفصائل الأصيلة. وعندما تبلغ الفرس مطالع الأنوثة الفوارة وتهيج (تحيل) طالبة وصال ذكر يأخذونها إلى حصان أصيل لـ(يشب عليها) «ليجري في جسدها الناهض ماءه النبيل» فتواصل أصالتها وسلالتها الأصيلة.
وفي وصف أصالة الخيول والدفاع عنها يمكر النص بهدوء فلا ندري إن كنا نقرأ عن أصالة الخيول أم ناس الخيول أم بلد الخيول. فكما يخلط نصر الله بين قلوب عاشق الخيول البيضاء وقلوبها هي فإنه يخلط عن عمد مخبوء في الحروف بين صفاتها وصفات ملاكها وصفات أرضهم. وهؤلاء الثلاثة، الخيل (أو «الريح» كما هي تسمية الجزء الأول من الرواية، وتغطي حقبة السيطرة التركية)، والوطن («التراب»، كما هي تسمية الجزء الثاني، وتغطي حقبة السيطرة البريطانية وثورة 1936)، والناس («البشر»، كما هي تسمية الجزء الثالث، وتغطي حقبة حرب النكبة وما سبقها) هم في مجموعهم كيمياء الوجود وخليطه المتداخل والمتواصل في كل ذرة من ذرات هذا المكان. وثلاثتهم يعانون من قلوب هشة، عاشقة، سرعان ما تقرأ في عيون بعضها البعض ذلك السحر الذي لا يقرأه الآخرون، لا يقرأه الغربا، لأنه مكتوب بلغة وكيمياء ذلك المزيج الغريب والبديع. لذلك فإن خالد بطل الرواية وممثل «البشر» فيها يظل متسمراً في الأرض لحظة وقوع بصره على الفرس الأبيض الإصيلة التي ضلت طريقها ووجدت نفسها في قرية «الهادية». من لحظتها صار خالد و«الحمامة»، اسمها الذي ستعرف به من يومها، زوجاً واحدا، يناديها بصوته فتصهل مجيبة. خالد ينسى شبقه المتصاعد للزواج ورغباته التي يفصح بها لأمه وأبيه بأنه صار مستعدا للزواج وتواقا له. بعد أن قابل «الحمامة» صار أبواه وكل القرية أيضاً يتساءلون إن سرقت «الحمامة» قلبه وأقفلته فما عاد لبقية الاناث فيه أي نصيب.
«ذات ليل ألقى بسرج الحمامة بعيدا، وقد أحس أن لا شيء يجب أن يفصله عنها، هبط السفح، وصل إلى طرف السهل بعيدا عن بيوت القرية، نزع ثيابه، طواها بعناية، وضعها تحت جذع زيتونة، وقفز فوق ظهر الحمامة. ليلة بأكملها انطلقا معا، لم يتوقفا فيها لحظة، حتى أحس بأن ثمة أجنحة قد نبتت لها، وأنهما يحلقان في السماء، لاحت له الخيوط الأولى من الفجر …أحس أن جسده قد تسرب واستقر عميقا فيها، كما تسرب جسدها واستقر عميقاً فيه. عاد إلى جذع الزيتونة … هبط أخيرا. ارتدى ملابسه، كان هنالك شيء غريب يملؤه، شيء لا يوصف. وحين راح يخطو خطواته بجانبها، لاحظ مشيته، فأدرك أنه قد تحول إلى حصان». ما من قارئة لهذه الرواية إلا وستتمنى أن تكون «الحمامة» التي تنهب البيادر ركضا وجذلا، وما من قارىء لها إلا وسيتمنى أن يكون الحصان الذي يستجيب لصهيل «الحمامة» حين «تحيل» فـ«يشب»عليها ليطير فيها ومعها كالريح.
بعد زمن قصير يأتي أصحاب «الحمامة» الأصليون يطالبون بفرسهم. ولأن الفرس الأصيل لا تُسرق ولا يُسطى عليها يكون لا مناص من إعادتها لهم. تسيل دموع عند الفراق، لكن الناس الأصائل يلحظون علاقة العشق الجديدة فيقطعون العهد على أن يرسلوا «حمامة» أخرى للشاب العاشق، من سلالة «الحمامة» الأم. وعندما يمر زمن ويأتي الناس الأصائل بالوعد، تتقدمهم بنت «الحمامة»، ويتركونها أمام بيت الحاج محمود، أبو خالد، يكاد خالد يغيب عن الوعي عندما يقع نظره عليها: ابنة «الحمامة» لا تشبه أمها «الحمامة» فحسب، بل كأنها هي – هنا تتناسل الخيول وأصحابها منذ فجر الخلق. قبل أن يغادر الناس الأصائل ويتركوا وراءهم «الحمامة» البنت لخالد يستدير شخيهم وفارسهم طارق، طويل القامة، رفيع المكانة، بفرسه ويسير إلى أن يصل خالد ويهمس في إذنه «إنها المرة الأولى التي تخرج فيها فرس من بنات «فضة» خارج حدود أهلها، صنها تصنك، وأرعها برفق تكن حصنك. هذه وصيتي والله يحميكما». وكما كان يحتضن وجه أمها، جاء خالد فاحتضن وجه «الحمامة» الجديدة، ثم انحنى مؤدياً الطقس المقدس الذي سيلازمه مع «الحمامة» حتى يموت وتختفي هي: ينزل عند قدميها، يحمل القدم اليمنى برفق، يقبلها، ثم ينزلها، ثم يحمل القدم اليسرى بنفس الرفق، يقبلها، ثم ينزلها!
ليست «الحمامة» هي الخيل الوحيد التي تذرع الأرض عشقا وانطلاقا عندما يمتطيها الحاج محمود. كان هناك «فضة» و«الأدهم» و«الشهباء». لكل منها عاشق أو عاشقة. هذه الكائنات الأصيلة تفهم لغة أبناء الأرض. لا الغرباء ولا العملاء يستطيعون الهمس إليها أو الحديث معها. تورط ناجي أحد أبناء الحاج خالد، بعد زواجه من سميه التي فضحها حبها له وملاحقتها له في السهول والبيادر، في حب مع «الشهباء» يحاكي قصة حب أبيه مع «الحمامة». فيما كانت فاطمة (إبنة الحاج خالد أيضا) هي الأقرب للغزلان، تأتيها غزالة شاردة من قناص، تلوذ حولها وتشكي لها، تهمس لها فاطمة وتطمئنها، ثم تطلقها في السهل الكبير، حرة راكضة. لكن كل القصص تصغر أمام قصة «الأدهم» و«ريحانة». كان «الأدهم» خيلا عملاقاً، جبلا من الكبرياء لا يرتقيه إلا صاحبه. يجندل الصاغرين والعابثين ويبحث عن العشاق الذي في عيونهم برق مصوب نحو قلب الأفق. يحنو على «ريحانة» وزوجها ويبادلانه الحنو. ويوم خطف «الهباب» أحد كبار العملاء في المنطقة ومن نشروا الرعب في قلوب أهل القرى «ريحانة» وقتل زوجها أمامها لم يستطع أحد مواجهته. فكما كان الأتراك حماته القدامى صار الإنجليز حماته الجدد. يوم الخطف استجمعت «ريحانة» كل شجاعتها وهي التي شتمت أهل القرية وغياب رجالها وجبنهم وقالت «للهباب» الوحش تستطيع التمكن مني لأنك الأقوى، لكني أمنحك نفسي طواعية إن أستطعت ركوب «الأدهم». كانت «ريحانة» قد خلت بـ«الأدهم» يوم خُطفت فأحنى لها رأسه وهمست في إذنه طلبا صغيرا – «ما الذي يمكن أن تقوله إمرأة لحصان تختلي به؟» هاج الأدهم وماج وقلب «الهباب» عن ظهره – لا تدعه يركبك، كان همسها! مرت سنوات و«الهباب» المطعون في رجولته لا يستطيع الاقتراب من «ريحانه» بسبب «الأدهم». يوم تفاقمت سورة غضب «الهباب» وقتل «الأدهم» بالرصاص مات هو الآخر.
«لست هنا لأنتصر، أنا هنا لأحمي حقي»
يتمازج «الريح» و«التراب» و«البشر» في هذا المكان حيث يصير الوجد والوله بالفرس والخيول البيضاء لغة سرية من يفكها ينتمي للمكان. تصير التفاصيل صلوات قداسة هادئة، من صوت المهباش، إلى ميلان الشجر، إلى تلون الأرض مع شدة لون الشمس. يصبح المزيج كله صورة بالغة الرهافة والتكامل لا تسمح لأي نشاز بالانضمام إليها. لذا عندما يأتي «رجال الدرك» يشعر القارىء بالانقباض، لأن نشازهم ولفظة وصفهم تكسر رونق الصورة وانسجامها. وعندما يأتي رجال الإنجليز والمستوطنون اليهود من بعدهم تظل الصورة التي تدافع عن إنسجامها، والنص الرهيف الذي خلقها، يرفضان الغريب ويدحرانه بعيدا عن زمن خطته حوافر وعيون الخيول البيضاء.
أما خالد فيتواصل عهد عشقه مع «الحمامة» الابنة، كما لو أنه لم ينقطع. وذات يوم، مع «الحمامة» أيضا، يلحظ خالد في بيدر ما «ياسمين»، فتاة طالعة من حيث يُصنع الجمال فتبهره. لطالما تساءل من أين له بامرأة ببهاء «الحمامة». ها هو الجواب يأتي بغتة، الآن وهنا. يلف عنق فرسه ويتجه إلى صاحبة الوجه الوضاء بجمال آسر. من أين طلعت هذه المعجزة. «توقفت وراحت تتأمل الفرس، وكان يتأملها. وبهدوء استدارت عيناها نحوه وحدقت فيه. ولم تقل سوى ثلاث كلمات ستكون كافية لتغير حياته: أتعرف .. هذه أنا! وهي تشير للحمامة». وعندما رجاها أن تخبره باسمها ليطلبها من أهلها. لا تتباطأ في مشيتها ولا تستعجل: لكن تمنحه ابتسامة فيها براءة ومكر وخفر وتحد. تشير بيدها نحو الفرس البيضاء وتقول له «اسألها». تعلق منديلها في جبهة «الحمامة» وتمضي بابتسامتها الغامضة. يظل المنديل رفيق خالد حتى لحظة اختراق الرصاص اللئيم جسده. كانت قد مرت سنوات على خطبتهما، لكن خالد صار مطاردا من قبل الانجليز، ولم يصبر أهلها على فوضاه. ويوم استشهد بعد سنوات طويلة على قصة الحب التي شهدتها «الحمامة»، كان قد تزوج من أخرى، وأنجب أولادا. وكانت ياسمين قد كبرت وتزوجت غيره وتابعت أخبار بطولاته القادمة من الجبل بدمع صامت لا يراه أحد.
كان الناس يدافعون عن حقوقهم، ولا يبدأون العدوان. أحياناً تدهشنا سلبيتهم الأولية ولماذا لا ينقضون على بدايات الشر، عوض انتظار تعاظمه. عندما كان الحاج خالد يحادث نوح أخو خضرة وزوج ابنته فاطمة كان كمن يتأمل الأفق ويراجع وصية أبيه بينه وبين نفسه. وذات يوم تمتم بما كان يراه «الدستور» الذي أراد والده عملاق القرية وحبيبها أن يتركه للجميع: «كان والدي رحمه الله يردد دائما: لا يمكن لأحد أن ينتصر إلى الأبد، لم يحدث أبدا أن ظلت أمة منتصرة إلى الأبد». لكن الحاج خالد كان يضيف سطورا أخرى من تجربته إلى ذلك «الدستور» «إنني لست خائفا من أن ينتصروا مرة وننهزم مرة، أو ننتصر مرة وينهزموا، مرة، أنا أخاف شيئا واحدا أن ننكسر إلى الأبد، لأن الذي ينكسر للأبد لا يمكن أن ينهض ثانية … الشيء الوحيد الذي لم يخطر ببالي في أي يوم من الأيام، أنني ذاهب لألحق الهزيمة بأحد، كنت ذاهبا لأحمي حقي. وأنا الآن لا أريد أقول لهم أكثر من هذا: لست هنا لأنتصر، أنا هنا لأحمي حقي».
ترافق «الحمامة»، ثم ابنتها، خالد في كل مقاوماته ضد الأتراك، ثم الانجليز، ثم المستوطنين اليهود. في كل غيباته مع رفاقه في الجبال كانت الحمامة أمه وأخته وحبيبته. تعرف الطريق إلى «الهادية» فتروح وتجيء، به أو لوحدها، تبحث عنه إن جرح، وتحمله على أكف الحب وتعيده إلى دفء امه في القرية التي كانت غربان العملاء والغزاة تطبق عليها الحصار شيئا فشيئا. خالد، الذي كبر وصار الحاج أبو محمود، همته ظلت شابة. هو ورفاق الرصاص القليل ظلوا ممسكين على أعقاب بنادق قديمة. كانت المدافع الرشاشة في يد أعدائهم تهزأ بسلاحهم. كانوا يبعثون الرسل والرسائل إلى القاوقجي وقوات الجامعة العربية التي تكدس السلاح وتجمعه، يرجونها العون والمساعدة، فيأتي الرد سلموا أسلحتكم واتركوا القتال لجيوش العرب التي ستأتي. يسقط الحاج خالد شهيدا ولا تأتي الجيوش. يتجمع الجنود الانجليز وضابطهم «بيترسون» حول الجسد المسجى بالدم بعد أن أتعبهم سنوات وهم يلاحقونه ورجاله. نطق أحد الجنود موجها كلامه لبيترسون: مبروك! لكن القائد الانجليزي نهره وقال «هذا رجل شجاع، من العيب أن نتلقى التهاني بمناسبة موته. ثم قال وهو يحدق في وجوه الجنود: كان رجلا شريفا، من أين لي بعدو مثله بعد اليوم؟» مع ذلك فقد كانت الأيام العشرة التالية لاستشهاد الحاج خالد أسوأ أيام الضابط «بيترسون»، حيث أضربت البلاد وصارت صور الحاج في كل مكان، وخرجت المظاهرات في كل المدن. في حين كان الهدف من قتله قمع ثورة، كان فياستشهاده اشتعال ثورات.
في يوم الاستشهاد سال دمع «الحمامة» سخياً، وأختفت. في زمن الخيول البيضاء كان الحاج خالد و«الهادية» و«الحمامة» و«الغزالة» التي تستجير به وتلتف حول ساقيه طالبة الحماية، والحمام الزاجل الذي يطير برسائل الثوار بين بعضهم البعض كائنات مخلوقة من حب أبيض. كانوا عجين «الريح والتراب والبشر»، وجذوع الشجر وجذورها من لحظة أن صار في الكون سنابل تنمو وخيول تصهل. يوم جاء الغرباء وداسوا في العجين، أختفت «الحمامة» وراء الغيم تنتظر الحاج خالد يُبعث من جديد. يوم حاصر الضابط الانجليزي اللئيم «بيترسون» قرية «الهادية» باحثا عن السلاح والمقاومين فشل في العثور على شيء، فأمر بتلغيم القرية ونسفها. يومها لم يسمح لهم بإخراج شيء من القرية. لكن أهلها رجوه أن يخرجوا الخيول – الخيول فقط. كان «بيترسون» يتقهقر أمام نظرات الخيل الأصيل، نقطة ضعفه الوحيدة، فسمح بإخراجها. ما دامت الخيول تركض في بيادر ما فإنها تنتزع منها الخاص بها من الشمس.
مارقون عن «الزمن الأبيض»: عمالة وخذلان
بيد أن الصورة ليست رائقة في كل جوانبها. لكن كان على أهل القرية أن يتعلموا الدرس القاسي والمتأخر. كان عليهم أن يخسروا القرية وبقية القرى، ويكتشفوا عمالة العميل، ونذالة النذل، قبل أن يتعلموا الدرس. قال لهم المحامي اليافاوي يوم أخذ إلى محكمة المستعمر قضية الأراضي التي سرقها الدير اليوناني منهم لأنهم أودعوا ملكيات أراضيهم عنده: «المشكلة الكبرى التي تهدد هذه البلاد أنكم طيبون إلى حد متميز. قبلها كان على أهل القرية أن ينتظروا قدوم «الأب إلياس»، إبن القدس البار والناقم على عمالة أديرة اليونان للأتراك ومن ورائهم البريطانيين. قال لأهل القرية المتسامحين لسنوات طويلة مع الدير: «هذا الدير كأديرة كثيرة موجودة هنا في بلادنا لا تختلف عن الجبابة في شيء ولا عن المدفع الرشاش الذي، حين ينطلق رصاصه، لا يكون له إلا هدف واحد، أن يحصد كل ما حوله». تذكر أهل القرية القساوسة اليونان الذين تناوبوا على إدارة الدير لسنوات: الأب جورجيو، الأب ثيودور»، ثم الأب منولي، قضوا سنوات طويلة لكن لم تقم بينهم وبين أهل القرية أية علاقة. ظلوا غرباء عنها، مقيمين في الدير الغريب على تلة عالية من تلال القرية المحيطة بها.
أما في يافا فقد كان ثمة طبقة واسعة من ممالئي وخدم الحاكم العسكري البريطاني تلعب دور السكين في ظهر الثورات الفلسطينية. وكما يبدع نصر الله في رسم بياض الناس والخيل والثوار، فإنه يبدع في رسم اسوداد وجوه وأفعال العملاء. ونرقب حياة بعض كبار الأعيان في يافا، والذين جاءوا أصلا من قرى بعيدة تملكوا فيها بيوتاً فارها ومزارع ممتدة يزورنها في مواكب شبه ملوكية كل شهر. في «ليلة روزالين» يجرعنا نصر الله كأس القرف من سليم بيك الهاشمي، أحد أعوان الحاكم الانجليزي ومدعي الوطنية. فـ«روزالين» المغنية البريطانية المثيرة بجسدها الذي يلهث وراءه سليم بيك الذي تعدى الستين تستسخف مراودته لها، وبقية أصدقائه الذي يشبهونه في اللباس والنذالة. تقول لهم ارموا هوياتكم في آخر القاعة ثم تسابقوا في محاولة التقاطها بأسنانكم ومن يأتيني أولاً بهويته أكون من نصيبه الليلة. قبلها بأيام كانت بصقة الضابط الانجليزي تطير في الهواء لتهبط على وجه سليم بيك، تلحقها ركلة تؤدي إلى كسر ذراعه، بسبب فشله في تنفيذ الأوامر ضد الثوار.
لكن المرارة الأشد التي يدخرها لنا نصر الله ويقدم لنا كؤوسها في «التراب» و«البشر»، في عهد الثورات الفلسطينية ثم سني ما قبل نكبة 1984، هي خذلان جيوش العرب لأهل فلسطين. يصف لنا: «لم ير أحد الحاج خالد غاضبا كما رأوه ذلك اليوم، كور البيان وألقى به بعيدا، سقط قرب «الحمامة»، مدت رأسها، كانت تهم بالتهام الورقة التي ألقيت أمامها، فصاح بأعلى صوته: لا. ارتبكت الفرس وتراجعت إلى الوراء». كانت الورقة المكورة هي بيان وقف الثورة الذي جاء به أحد رجال فوزي القاوقجي وسلمه إلى الحاج خالد. إنه البيان رقم ٦١ ويقول: «تلبية لنداءات ملوكنا وأمرائنا العرب ونزولا عند طلب اللجنة العربية العليا نطلب توقيف أعمال العنف تماما وعدم التحرش بأي شيء يفسد جو المفاوضات التي تأمل فيها الأمة العربية الخير ونيل حقوق البلاد كاملة، وأن نتجنب أي عمل من شأنه أن يُعد حجة علينا في قطع المفاوضات .. إننا نرحب بالسلم الشريف ولن نعتدي عليه ولكننا عند اللزوم ندافع ولن نرمي السلاح …».
تقفل الرواية على المشهد الحتمي، وتقطره بالمرارة. انتهى «زمن الخيول البيضاء». غابت «الحمامة» و«الأدهم» و«الشهباء» وكلهم. وأنتهت قرية «الهادية»، ودمرت وحرقت. أهلها يغادرون بعد حصار وجوع وخذلان جيش الإنقاذ. حُشروا في شاحنات نقلتهم إلى المجهول، ومن فوقها كانوا يلقون النظرات الأخيرة على زمن يلفظ حشرجته الأخيرة أمامهم. كانت «العزيزة» أخت الحاج خالد تراقب هبوط السماء الحزينة: «دوت عدة انفجارات، التفتوا، فإذا بنار تلتهم عددا من بيوت القرية. حدقت «العزيزة» التي كانت تبكي بصمت مسندة وجهها إلى الحافة الحديدية لصندوق الشاحنة. كانت أحدى القنابل قد سقطت في بيت أبيها، اندلعت النار فيه وسقطت قنبلة أخرى فاشتعل برج الحمام. راحت «العزيزة» تراقب النار التي تتصاعد ملتهمة البرج وما فيه، وعندها رأت ذلك المشهد الذي لن تنساه أبدا. كان الحمام يطير محترقا، قاطعا مسافات لم تفكر يوما أن حماما بأجنحة مشتعلة يمكن أن يبلغ نهاياتها، وحيثما راح يسقط في البساتين والكروم والسهول المحيطة كانت نار جديدة تشتعل. وحين وصلت العربات إلى تلك النقطة العالية الي تتيح للناس مشاهدة «الهادية» للمرة الأخيرة، كانت ألسنة الحرائق تلتهم الجهات الأربع».
هامش
١- «زمن الخيول البيضاء» (رواية)، إبراهيم نصر الله، المؤسسة العربية للنشر، 2007، الطبعة الأولى، عمّان، ٠١٥ صفحات. وهي خاتمة روايات ست تشكل في مجموعها مشروع الروائي والشاعر والرسام التشكيلي إبراهيم نصر الله. الروايات الخمس السابقة هي، بالترتيب حسب تواريخ صدورها، «طيور الحذر» (1996)، «طفل الممحاة» (٢٠٠٠)، «زيتون الشوارع» (٢٠٠٢)، «تحت شمس الضحى» (2004)، «أعراس آمنة» (2004).
خالد الحروب
كاتب فلسطيني يقيم في بريطانيا