اللقاء مع د. موسى وهبة شيق لأنه صعب، وصعوبته في أن هذا المفكر اللبناني بمثابة لغط بين زملائه الفكرين، ولغطه يكمن في الافكار التي يطرحها و المحتاجة الى يقظة وحذر دائمين لدى محاوره دون أن ننسى طول الصبر والبال. فلا يمكن أن نسهو عن كلمة يصرح بها، فالكلام مترابط ويشكل وحدة قائمة بذاتها. لذا كان الانتباه الشديد هو سلاحنا أثناء حوارنا الذي امتد لأكثر من ثلا ث ساعات تسجيلا بالصوت فصحيح أننا شعرنا بالتعب لكننا أيضا شعرنا بفرح النقاش ومتعته.
نبدأ من اشرافك على ملحق "نهار الكتب " لماذا هذا الملحق في حين أن معظم الجرائد والمجلات تخصص حيزا للكتب عرضا ونقدا وخلافهما؟
– فكرة أن يكون للكتاب مجلة خاصة به، هي فكرة تختلف ان يكون للكتاب صفحة في يومية أو أسبوعية أو شهرية، اذن الاهتمام بنوع خاص بالكتاب له مغزى مختلف. وهو أن يثرن لدن القاريء (وثيقة ا وأشدد على كلمة وثيقة، المفترض أن تتمته بصفتين، بالمتابعة الدائمة لما يصدر من جديد، وبالدقة العلمية. بهذا المعنى لا يمكن المقارنة بين المراجعة اليومية للكتاب في صحيفة يومية أو أسبوعية وبين تخصيص مطبوعة شهرية خاصة بالكتاب. هذه المطبوعة الشهرية مطلوب هنئا ليس فقط استعمال الكتاب كمادة ثقافية بالمعنى العريض : يعني لنهار الكتب مهمة تأسيسية في !(ثقافة ومهمة الدفاع عن الكتاب. الدفاع عن الكتاب بطرق مختلفة، أي ايجاد القاريء العربي المتابع للكتاب وكما تعلم نحن العرب نشكو من قلة القراء ونشكو من انتشار الأمية. اذن يجب أن نخلق لدى القأريء حشرية ما تجاه الكتاب وأن نكون رقيبا معنويا على جودة الكتاب، يجب على من ينشر كتابا أن ينشره ضمن شروط معينة. ونحن هنا من أجل أن نصنف الكتب، الكتب السيئة من الكتب الجيدة.
في هذا السياق ما هي المعايير والمقاييس التي تعتمدونها للحكم على الكتب السيئة من الكتب الجيدة؟
– هذا صحيح، لقد استعملت نعوتا قيمية. والحقيقة قصدت بالسيىء والجيد نعوتا وصفية فقط. عندما اقول كتابا سيئا هو الذي لا تتوافر فية شروط الطباعة الجيدة، واللغة السليمة والاخراج المريح، والكتاب الجيد هو الكتاب غير المسروق مثلا، أو الذي يحترم القاريء ويبقى اننا لا نستطيع. أن نحدد المعايير النهائية للقول ان هذا الكتاب جيد أو سيىء. لكن ما يمكن قوله بخصوص الكتاب الجيد و السيىء يتلخص بأن هذا الكتاب مفيد و ممتع ومسل أو لا يحمل هذه المواصفات. اضرب مثلا على ذلك. كتاب "عودة الروح " لتوفيق الحكيم فهذا الكتاب جيد. او( تاريخ الفلسفة الغربية ) فهذا كتاب جيد أيضا.و كذلك الكتب التي كانت تنشرها سابقا المعارف المصرية. فهي كتب جيدة بمعنى انها متقنة الاخراج، عالية المستوى. خالية من الأخطاء اللغوية.
وأي كتب لا تتوافر فيها هذه الصفات فهي كتب سيئة هذا ما قصدت قوله بشأن الكتب السيئة والجيدة؟
*كيف ترى الواقع الثقافي المحلي والعربي، وهل لا يزال المثقفون يلعبون الدور التنويري الذي كان يعود لهم سابقا في ظل الثورة الدائمة للعلوم والتكنولوجيا:
– استطرادا لفكرة نهار الكتب فهي كانت فكرة ناتجة عن أزمة الثقافة المحلية وأزمة الثقافة عموما. أعتقد ومنذ بداية الثمانينات دخلنا في عصر (موت المثقف ) الذي كان سائدا من قبل أي المثقف العضوي الذي شغل الناس والعامة حوالي نصف قرن والذي مثله بشكل نموذج (جان بول سارتر).
المثقف بهذا المعنى هو صاحب الفكر أو رجل العلم، أو رجل الاختصاص الذي يهتم بالشأن العام خارج ميدان اختصاصه. ليس هناك اختصاص اسمه الثقافة. الثقافة ليست اختصاصا. الثقافة بالمعنى السائد هو تدخل ذوي الاختصاص بالشأن العام. أي تدخلهم فيما لا يعنيهم من خارج اختصاصهم. بهذا المعنى ان المثقف كان مناضلا وملتزما بقضايا انسانية تتجاوز الاطر الاجتماعية أو القومية والمحلية، وبهذا المعنى كان سارتر يقف مع الجزائر أو يقف ضد الجنرالات ومع قضية فلسطين. هذا النوع من المثقفين دخل في أزمة ومعه دخلت الثقافة في أزمة، بما هي الثقافة من أفكار عائمة، تعني تمسك المتعلمين والأدباء والأطباء والمهندسين بمثل، لا تتمثل في شي ء معين بقدر ما تتمثل بالمساواة والحضارة ويمثل السلم بدل الحرب، وبمستقبل الانسان والدفاع عن الضعيف. هذه المثل تمثل مثلا ثقافية. وكان المثقفون جنودها. لذلك نجدهم غالبا متحيزين الى هذا النظام أو ذاك وان فكرة وجود المثقفين تتمثل بفكرة وجود نظام أفضل. عنب ما أقول أن الثقافة والمثقفين دخلوا في أزمة انما أقول هذا لأن فكرة المجتمع الأفضل دخلت في أزمة. أقول أنه ظهرت في الوعي العام قضايا جديدة لم تكن واضحة وضوحا كاملا وهي بحاجة الى موقف أفضل بل الى نظام أفضل ولنعط مثلا.
ما الفرق أن يكون هناك مساواة بين الرجل والمرأة بالمطلق مثلا؟ هل يجب أن يمنع العنف أيضا؟ هل من المستحب أن يظل الرجل هو الحاكم؟ هذه المثل بدت غير كلية، بدت خصوصية والمجتمعات التي كانت تنادي بها
فرطت……
لنا سؤال خاص بأزمة الايديولوجيات التي فرطت وبدائلها؟
– هذا جيد، لنتابع ما كنا نقوله. دخلنا في عصر سيطرت فيه التكنولوجيا. يعني لم يعد المثقف إعلاميا مفيدا أو محرضا مفيدا، لأن الوسائل الحديثة، من سمعية وبصرية، أخذت شيئا من هذا الدور الاعلامي التحريضي، أي الدور المعرفي الذي كان يؤديه المثقف. وقلت الحاجة بفضل هذه الوسائل الاعلامية الى المثقف وحتى الحاجة الى النظام الذي كان يضخ المعلومات والمعرفة. ان الحلم الذي هان يمثله المثقف لم تعد السلطة بحاجة اليه.
اقاطعك لأقول أن حلم المثقف بالوقوف ضد الاستغلال مازال قائما بوجود الاستغلال نفسه وأن حلم المثقف بالوقوف ضد الحرب مع السلم مازال موجودا، وأيضا النضال ضد التمييز العنصري والنضال من أجل احقاق العدالة والمساواة وغيرها من القيم. كل هذا لايزال يبرر وجود المثقف وتاليا دوره.
– الدور مازال مطلوبا. ولكن هل تجد مثقفا يدافع كما كان يدافع في السابق عن هذه القيم وآخر المثقفين الكبار الذين دافعوا عن هذه القيم ربما هو سارتر وأيضا راسل، عندما عقدوا المحكمة الدولية لمحاكمة نيكسون. وادانوا نيكسون بوصفه مجرم حرب. هذا كان واحدا من الردود الثقافية على جرائم الحرب. لقد مات سارتر وراسل وبقي العالم دون ضمير ثقافي دون (ضمير مثقف ).
وبرأيي أن آخر مثقف كان جورباتشوف الذي أعلن أن الدولة السوفييتية هي دولة بوليسية يجب ازالتها وطرح هموم كونية وجورباتشوف نفسه عزله العسكر أولا ثم عزله الشارع الليبرالي ثانيا.
لقد شهدت الثمانينات نهاية المثقف ولكنها ربما لم تشهد نهاية القيم والمثل. ولكن هل تعيش المثل بدون ممثلين لها.
هذا هو السؤال المطروح والملح الآن؟
– أنا لا أعتقد ذلك. لا أعتقد أن المثل تعيش دون ممثلين. نأخذ مثلا. اذا كان هناك مثقف، فيجب أن يكون موقفه واحدا من الحرب في لبنان، وفي البوسنة، وفي قبرص، وفي افغانستان اليوم لا تجد مثقفا واحدا وقف عمليا الموقف نفسه حول هذه القضايا. لا يمكنك أن تكون ضد الظلم أو القتل هنا وتسكت عنهما هناك. أي كيف تكون ضد الظلم والقتل وتصمت عن فتوى قتل الكاتب سلمان رشدي. كيف يمكنك أن تكون مع حرية القول والرأي ولا تفعل شيئا عندما يهجر حامد نصر أبوزيد عن وطنه؟
المسألة تبدو أعقد الآن، ماذا تفعل ازاء ما يحصل في الجزائر؟
أقول إننا لم نعد بمستوى الشموليات والعموميات. هذه العموميات أصبحت خصوصيات. يعني من جهة أنت كمثقف يجب أن تكون مثلك ديمقراطية، ان تحترم حق الشعوب في تقرير مصيرها، ان تحترم الاختلاف بما يعني الاختلاف بالمعتقدات. هنا وأمام شروط الارتداد وفتاواه ماذا على المثقف أن يفعل على ضوء احترامه لمعتقدات الشعوب؟ بمعنى كيف يحترم المعتقدات الدينية وهناك فتوى ضد هذا المرتد أو ذاك اللذين ينتميان الى المثقف كمدافع عن المعتقدات، أي كيف يكون المثقف ضد المثقف بناء على هذه المعتقدات واضدادها؟
أما أن تكون مع المثل المطلقة، وعندئذ تكون ضد الاختلاف وتمايز الجماعات عن بعضها البعض، واما أن تكون مع الخصوصيات لهذه الجماعة أو تلك وعندئذ تكون ضد المباديء التي تلتزم بها كمثقف.
إذن ان الثقافة عالقة هنا. أي ايجاد حل ما لهذا الاشكال الكبير بين العام والخاص بين العموميات الانسانية وبين خصوصية الجماعات البشرية التي تريد أن تحافظ على نفسها. المشكلة الكبيرة الآن هي الى أي حد يحق للعقل أن يتدخل في الذاكرة؟ العقل بما هو نقد، والذاكرة بما هي تاريخ وتراث وشخصية. الى أي حد يحق للدولة أن تتدخل في شؤونك الخاصة؟ مثلا، ففي الغرب لا يحق لك أن تضرب ابنك. في ثقافتنا الشرقية قد تعذر هذا الموقف. وفي الثقافة الحديثة يمكن للمرأة أن تشتكي فما هو الحكم في ثقافتنا الشرقية بالنسبة للمرأة التي تشتكي من ن وجها مثلا؟ فمن واجب الرجل في الثقافة الاسلامية أن يؤدب امرأته.
المشكلة الآن في الثقافة. ان الوعي البشري تفتح على تعقيدات هائلة أكثر بكثير مما كنا نظن. بدا الواقع الآن أ- تعقيدا وان الثقافة الماضية لم تعد قادرة على ردم الهوة بين خصوصية الجماعات والافراد وبين ما يتطلبه الواقع المجتمعي.
لماذا برأيك انتقل عدد من المثقفين والمنظرين اليساريين الى مواقع نقيضة لما كانوا ينظرون له، وبالأخص انتقالهم الى (التنظير السلطوي) مثقفو الأنظمة _ وهذه الظاهرة لا تقتصر على دولة عربية واحدة، فهي ظاهرة في معظم الدول العربية وتحديدا الدول التي كان اليسار حاضرا بقوة فيها؟
– المسألة يا صديقي متصلة بالأزمة التي كنا نتحدث عنها والتي يمكن أن نختصرها الآن من خلال هذا الحوار بأزمة العام. أزمة العام هي الأزمة، اذن، الأزمة دخلت في الثقافة نفسها، وهذه الأزمة لم تنته فجأة، إنما تجمعت وتراكمت في السبعينات حتى انفجرت في الثمانينات، انفجر شيء اسمه
العام.
استفاق المثقف على نفسه ورأى أن عامه خاص جدا. مثلا إن المثقف الحزبي _ الأممي _ كان يدافع عن الظلم وكان يسكت عن القمع داخل حزبه. كان يرى القشة في عين أخيه ولا يرى البعير في عين…. إذن العام دخل في أزمة وعندما يدخل العام في أزمة تنهار اليوتوبيا، وعندما تنهار اليوتوبيا ينهار حاملها أيضا. هذا التراجع لليساريين بين أن جسم بعض اليساريين غير صلب من أن يضرب في مكان حتى يتداعى، أو يتشظى. هذا هو السبب. ان اليساريين الذين ذهبوا الى السلطة نوعان، إنما كانوا عملاء سلطة عندما كانوا يساريين والسلطة بحاجة الى عملاء يدعمونها من الداخل، وكانوا أعمدة سلطان ما، أعمدة الأمين العام مثلا، وكان هناك فريق من اليساريين الفرنسيين يقولون (الفكر ماوتسي تونغ ) ولا يقول فكر ما وتسي تونغ، لا يحذفون "ال" التعريف، وهي أداة المضاف والمضاف اليه ويعتبرونها بدلا. ما وتسي تونغ هي البدل عن الفكر. أقصد أن نوعا من المثقفين أقرب الى أعمدة ترتكز عليهم السلطة. هؤلاء لم يفعلوا شيئا سوى أن يكونوا عمودا لهذه السلطة في الداخل أو الخارج. ولكن هناك فريقا أخر من اليساريين اسميه (فريق اليوتوبيا) الذي انهار حلمه ولم يندفع الى صفوف المعارضة أو الى صفوف السلطات.
في سياق الأزمة هل تعتقد أن الماركسية انتهت وهل تشكل الرأسمالية حلا مرة أخرى، أم أن العودة الى الأديان هي الحل وربما المؤقت للتعويض عن النقص النظري والايديولوجي في الغرب كما في الشرق.
– الماركسية والرأسمالية والأديان جميعها، لا تنتهي لحما يقول الخبيث لأنها لم تبدأ. بمعنى أن ما كان قائما من الماركسية ليس كيانا، هو وهم قائم في أشباح وكما يسميه أحدهم هو أشباح ماركس ويقول دريدا، الشبح لا يموت البتة، الماركسية كفكرة وكيوتوبيا ممكنة لم تنته الا ماركسيا. من وجهة نظر مذهبية ماركسية، انتهت الماركسية فلا يمكن لماركس أن يقول أن الماركسية لم تنته. لماذا؟ لأن ماركس هما عرفناه يقول انه ليس هناك جوهر الا من خلال الحكم على ظواهره (أي خارج مظهره ) اذن، الماركسية في مظاهرها فشلت. ولا يختفي خلف هذه المظاهر شي ء ما حتى يتجدد. إذن الماركسية فشلت ماركسيا بمعنى أن الأنظمة التي قامت على أساسها انهارت. لكنها لم تفشل مثاليا. أما من الناحية المادية التي تتحدث عنها فانها قد فشلت. لكنها كيوتوبيا قد تتجدد وهذا ينطبق على كل يوتوبيا. أقول ان اليوتوبيا بما فيها اليوتوبيا الدينية، لا تنتهي. وهذا لا يعني انه جاء دور الرأسمالية أو الليبرالية فهذا لا علاقة له بما تقدم. وأعتقد أن الرأسمالية انتهت من زمان. ورأسمالية اليوم ليست هي الرأسمالية التي نعرفها. فالعصر بحاجة الى قراءة.
ما هو قائم حاليا هو شي ء مختلف عما سمي بالرأسمالية وعما سمي بالاشتراكية، ولا أعرف ماذا يجب أن نسميه، هل سيحل محل الماركسية؟ هل هناك عودة الى الأديان؟ أعتقد أن الأديان لم تغادر قط. أي أن الناس في اجتماعاتهم يعبرون عن تضامنهم الاجتماعي بواسطة الأديان التي اكتسبوها بالتربية والوعي الديني لم يغادر أصلا، اما الوعي الديني كاستخدام سياسي أعتقد أن هذه النقطة بدأت بالتراجع والانحسار (الاصوليات ) وقد لعب دوره (الاستخدام الأصولي ) وهو ليس دوره انما دور الماركسية التي هرمت وهو تلقي هذا الدور، وهو مجرد تلق، وأعتقد أن البشرية نضجت (وأقصد بالبشرية العلاقات الاجتماعية العامة على مستوى الكوكب ) البشرية لم تعد راغبة بالاستجابة مع الأصوليات الدينية الاسلامية والمسيحية واليهودية. فلم يعد الزمن زمنها الا كمحاولات دفاعية ليس أكثر.
هل نستطيع أن نقول أننا نعيش أزمة فراغ ايديولوجي وروحي؟
– هذا سؤال كلاسيكي، وجرى الكلام بشأنه كثيرا ولا أعرف ماذا يصح القول فيه ولا أعتقد أن المرحلة التي نعيشها جديدة الجدة كلها. لقد مرت في التاريخ فترات كالفترة التي نعيشها، نحن نخرج من مرحلة، لندخل في مرحلة، لا نعرف بعد ما هي خصائصها، لم تتضح بعد معالمها. لا نستبين النهار الجديد قبل أن تشرق الشمس وأعتقد أن هناك فئة من الناس تعيش مرحلة من الضياع لكن الكلام عن بؤس ايديولوجي هو كلام محصور جدا بفئة من المثقفين وهي فئة قليلة جدا في الأساس ولا أعتقد أن مثل هذا الضياع موجود عند فئة المهندسين والأطباء والتجار. يمكن أن هناك مشكلة عند المزارعين لكنها ليست مشكلة العصر إنما مشكلة مزاحمة.
هناك فئة من المثقفين دخلت في أزمة، وهي مشكلة قديمة وقد تحدثنا عنها، فلا يصح الكلام عن أزمة جديدة بلفة قديمة. وبدوري لا أملك أدوات تحليل للأزمة في الوقت الراهن وأفتقد أن المرحلة بحاجة الى لا فترة تأمل.
نقلت العديد من المؤلفات الأجنبية الى العربية. هل ماز ائت الترجمة تؤدي دورها الحضاري، وهل هناك من كتب تأسفت على ترجمتها وأيضا هل هناك من كتب تأسنت لأنك لم تترجمها؟
– الترجمة الترجمة الترجمة. انت الآن تعيدني الى هموم عشتها، و الآن أعيش هموما غير الهموم الثقافية بالمعنى الحصري الذي قصدته. إنها هموم نهضوية. بحكم اختصامي كأستاذ للفلسفة كنت أشعر دائما أن هناك إشكالا كبيرا بتعلم الفلسفة بالعربية وفي تعليمها. أنا مقتنع وكافحت من أجل الاصلاح الذي حصل في الجامعة اللبنانية وهو تدريس المواد الانسانية بما فيها الفلسفة بالعربية، وأعتقد أن التدريس باللفة العربية هو حق من حقوق المواطن الذي ينطق بالعربية. لكن هذا التعلم يحتاج الى مصادر بالعربية أيضا، وأن مصادر التفكير المعاصر وبخاصة الفلسفة ليست قائمة بالعربية وهذا لا يصح على التعليم، بل على مجرد التفكير. أنا كي أفكر بشكل مجد يجب أن أفكر بالعربية، وعندما أفكر بالعربية يجب أن تكون مراجع تفكيري أيضا بالعربية والا سأقوم بعمل مضاعف أي أترجم الى العربية ثم أفكر بالعربية، لذلك أعتقدت ومازلت أعتقد أن المهمة النهضوية الأولى هي نقل التراث الانساني الى العربية وأساسا الفلسفة بمعناها العريق، أي كل النظريات الأساسية، أمهات الكتب، في هذا المجال نقلت بعض الكتب منها كتاب "نقد العقل المحض » والذي استغرق نقله سنوات عدة. ومسألة الترجمة عندي مسألة استراتيجية فأنا مستعد أن أترك أي عمل من أجل الاسهام في احضار التراث الانساني بلفة عربية موحدة المصطلحات لأن هناك ترجمات عديدة، ولكنها ترجمات عشوائية فيجب أن تنظم هذه المهمة الكبرى، وكنت أظن أن هذه المهمة تقع على منظمة "الالسكوا" وكنت كتبت الى هذه المنظمة منذ أكثر من عشر سنوات مقترحا عليهم أشياء كثيرة، ولكن للاسف، يبدو أن منظماتنا التربوية هي منظمات دبلوماسية فقط. أبدوا اهتماما ولكن لم ألق دعما. لن أجد "مأمونا» عربيا واحدا في دنيا العرب. المسألة الآن بحاجة الى جهد مركز وموحد اذا كان للعوب هم لدخول العصر وهذا مطلب عام، ومن دون المرور في هذا الصراط، أي صراط نقل العلوم الانسانية الى العربية لن يدخل العرب العصر.
لم تجب على شق آخر من السؤال الا وهو الأسف على ترجمة كتاب أو عدم ترجمته؟
– هذا صحيح، سأجيبك على الفور. أنا متأسف لانني ترجمت القليل مما يجب أن يترجم. ان الكتاب الذي تأسفت على عدم ترجمته هو كتاب "سيمياء الروح " لـ. هيجل. وهذا الكتاب عملت كثيرا في ترجمته ولكن لم أستطع نشره لاسباب منها، انني لا أستطيع وحدي أن أقوم بعمل يقع أساسا على المنظمات العربية والهيئات العربية المعنية بهذا الشأن. والكتاب الذي أحب أن أترجمه الآن هو كتاب "الكون والزمان " لـ."هايدجر" بالاضافة الى كتب أخرى وللأسف إن العرب منشغلون بهموم أخرى.
هل تعتقد أن لدى العرب قدرات وكفاءات في مجال الترجمة؟
– أعتقد أن لدى العرب قدرات هائلة للمستقبل، من امكانات مادية ورغبة قوية للدخول في العصر، وامكانات بشرية موجودة، وطاقات فكرية عربية موجودة واللغة العربية قادرة على استيعاب انجازات العصر الى أبعد حدود الاستيعاب. لكن ما ينقصنا هو الارادة. وأقول الارادة ليس مجرد قول عشوائي، إنما أقصد بالارادة، العناد المعرفي، ارادة المعرفة لكي نعرف لا لكي نعمل، ارادة العلم الخالص. أن ينشأ لدينا حاكم يجب أن يمارس حكمه في إرادة العلم. وليس في ممارسة تعذيب الجسد كالضرب والقتل. أن نمارس سلطة فعلية على أشكالنا. ممنوع مثلا. السيطرة على الجسد وكأن السلطات العربية تمارس نفسها على الجسد، لم يكتشف بعد هذه المنطقة العظيمة، هذا المجال الواسع لممارسة سلطانه فيه (أي ارادة العلم ). وان مارسه لابد أنه داخل في العصر. وهنا أسجل تفاؤلي رغم كل الماسي التي مرت وتمر عندنا، تفاؤلي بالكتاب العربي وبالعقل العربي وبالقول العربي.
يبدو لي أنك بعيد عن الواجهة الاعلامية بعكس زملاء لك في حقل الفكر والفلسفة. هل للأمر علاقة بموقفك المبدئي من الضجيج الاعلامي. وهل تعتقد أنه نوع من الابعاد، أم أنه موقف منك لأسباب لا نعرفها:
– لا أعتقد أن هناك علاقة حميمة بين الفلسفة والاعلام. ولا أعتقد أن الفلاسفة يكونون عادة في الأضواء. وأعتقد أنني بين زملائي المفكرين الأكثر لغطا، فمحير أنني بعيد عن الأضواء الاعلامية ولكنني أعتقد أن ما لدي من الأضواء يكفيني ويزيد. والعمل الفكري يحتاج الى العزلة. والهدوء. ولا أقصد العزلة عن الناس وقضاياهم. بل العزلة عن الأضواء وأنا منذ فترة كنت منقطعا عن الصحافة والمقابلات والتصريحات. الآن اذا كنت أعود الى هذا النمط فلأنني أشتغل في الصحافة وليس لأنني مفكر. وأعتقد أنه من التناقض الا أطل على الاعلام وأنا أعمل فيه. الى حد ما أخرج أو أطل شهريا على القراء من خلال (نهار الكتب ).
بصفتكم أحد المساهمين في المؤتمر الدائم للحوار اللبناني الى أين وصل هذا الحوار، وما الأثر الذي تركه بناء على اعادة تركيب لبنان الجديد بعد اتفاق الطائف؟
– أتيت الى المؤتمر الدائم للحوار اللبناني وكان قائما وأعجبتني فكرته، بما يحمله هن آراء تلتقي فلسفيا مع ارائي، بمعنى أن الفكرة التي يقوم عليها المؤتمر هي أن الحقيقة ليست موجودة لدينا مسبقا، الحقيقة حصيلة حوار. أو أن الحقائق تتحدد (الحقائق الاجتماعية ) ليست مسجلة بكتاب بل عليهم أن يسجلوها بأنفسهم (أي اللبنانيين ) هذه هي الفكرة العظيمة للمؤتمر. وأعتقد أن أهم ما انجزه المؤتمر هو نشرته المسمدة "أوراق للحوار" وهي نشرة فكرية خاصة ولكنها لم تثمر، مع أنها كانت زاخرة بالأفكار العظيمة، لا قيام لمجتمع من دون تعدد اجتماعي فيه. بمعنى أن يكون المجتمع من لون واحد لا يصبح مجتمعا بل يصبح جماعة. والفرق كبير بين الجماعة والمجتمع فالجماعة من لون واحد والمجتمع هو الوطن الذي يجمع فئات اجتماعية على عقد يتفقون عليه، مع الاحتفاظ بالتعدد وحق الاختلاف. أما الدولة والمجتمع فهيئتان منفصلتان بمعنى أن المجتمع له منطقه الخاص تعيش فيه الجماعات تمارس هويتها وخصوصيتها وأن الدولة ترعى هذا الاختلاف وتسهر على الا تطفى خصوصية على خصوصية أخرى. فالدولة في المؤتمر الدائم للحوار لم تعد راعية ولم تعد صاحبة رسالة، لأن الدولة مهمتها تسوية الخلافات والسهر على الا تتفاقم النزاعات. بينما اذا كان هناك من دعوة، أو رسالة فيجب أن تصدر عن الجماعات، هذه،عي الفكرة العظيمة التي أطلقها المؤتمر وكتبنا عنها وكانت مجالا للتفكير واختبارا للأفكار. ومن المؤسف أن أعمال المؤتمر الأن شبه متوقفة بسبب نقص التمويل. والممولون السابقون توقفوا عن التمويل لأنهم لم يستطيعوا السيطرة عل المؤتمر. أو تطويعه لمصلحتهم لكن فكرته ما تزال خصبة وقابلة للتجدد.
هل تعتقد أن النقد المحلي والعربي يقوم بدوره على مستوى وضع الأمور في نصابها الحقيقي في الأدب كما في الفكر كما في السياسة؟
– النقد هو جزء من الثقافة العربية التي تحتضر الآن. هناك شي ء يحتضر الآن، أنا أحس بهذا الشي ء الذي يحتضر وأراه يحتضر تحت ناظري. الثقافة والنقد يحتضران الآن، الأصولية ونقيضها يحتضران. لأن العصر قد سبقهما، وهما قلت مازلنا في نقدنا الأدبي والسياسي والاجتماعي نستعمل لفة قديمة لأوضاع جديدة وبالتالي مازلنا نخاطب الزاهرة. وبقار ما يخاطب نقدنا الذاكرة ويستثيرها بقدر ما ينجح لكنه يكون نقدا رجعيا. ولا يستطيع أن يفتح المخيلة أمام الآفاق الرحبة، وبالتالي لا يكون مستقبليا، هذا بصورة عامة باستثناء بعض الحالات التي لم تصبح مدارس وبهذا المعنى مازلنا مقصرين في خلق الجديد والمسألة ليست في اصلاح النقد، فهذا يكون اصلاحا جزئيا والمطلوب اصلاح عام. يجب البدء باصلاح الأسس العميقة، أي باصلاح الانسانيات في المجتمع.
في كتاب سابق لكم ناقشتم منطق الحرب وهذا هو عنوان كتاب سابق، كيف ترى الى ما ورد فيه بنا؟ على منطق السلم الذي نحن فيه الآن؟
– ان كلامي على منطق الحرب كان في بداية الحرب. كان نوعا من المحاسبة الذاتية والجماعية لمنطق الحرب نفسه. فالحرب اللبنانية كانت حربا قاسية. ومنطق الحرب كان محاولة للوقوف على تماس بين منطقين كانا يسعيان الى الفاء خط التماس. عندما تندلع الحرب يموت الشاهد. فالحرب لا تحتمل الا طرفين "عدو وصديق "، "حليف وخصم ". وتمنع قيام الشاهد، منطق الحرب كان محاولة لترميم هذا الشاهد الذي يستطيع أن يرى الشبيه القاريء الشبيه : الحرب هي الشبيه هي ذات الشبيه، أما السلم فهو حياة المختلف. هو قبول الاختلاف، وقبول الاختلاف هو القضاء على منطق الحرب. هذه هي الفكرة التي وردت في كتاب منطق الحرب. وكانت نوعا من الدفاع عن الذات، نوعا من تبكيت المقاتلين، ولكن للأسف أن هذا الكلام لم يكن مسموعا من أحد، رغم "نق الناقين " وأنا أعتقد أن الحرب تبدأ وتنتهي بروايات خاصة بها. فنحن أدوات لها ولسنا فاعلين فيها. ومنطق الحرب كان تعبيرا عن اعتراض وعن يأس. وطبعا كان يندرج هذا ضمن مثل السلم. لأن الحياة البشرية لا تستحق أن تهدر من أجل أي شي ء آخر لأنه لا يمكن أن نستخدم الانسان كوسيلة لغاية ما، فالانسان هو الغاية، هذه هي الفكرة الأساسية التي أردت أن أقولها وأبينها في كتاب منطق الحرب.
ما هي أهداف خطة المشروع الثقافي الذي تقدمتم به في التسعينات وما هي نسبة التجاوب معه على المستويين الرسمي والشعبي؟
– في بداية التسعينات تقدمت بمشروع أسميته "جماعة الفلسفة " أو "فريق الفلسفة " للانسانيات وهو يضم بعض المهتمين بالانسانيات. أعتقد في النهاية أنه مشروع خاص بكل مثقف بالمعنى العريض مهتم بالنهضة. وتأكيدنا على الانسانيات لقناعتنا أن النهضة لا تقوم على التكنولوجيا، لا أن يكون لدينا ألف مهندس، وكذا ألف من الأطباء وعلماء كمبيوتر فهؤلاء، يمكن صناعتهم في سنة أو في خمس، يمكن أن تحل الاشكال العلمي هذا بقرار تخصيص آلاف المهندسين والأطباء والعلماء، المسألة ليست هنا، فخلال عشر سنوات يتخذ بلد ما بتعليم الآلاف في المجالات المختلفة. ويمكن أن تستورد مصنعا جاهزا وتشغله على أحسن ما يرام (فهذه هي النمور الآسيوية ) كنموذج في هذا السياق. أي يمكن.تعويض التقصير العلمي على مدى سنوات معينة. لكن ما لم يعوض وما نحتاج اليه هو الانسانيات. هذه المسائل هي التي تحتاج الى نفس طويل. ولهذا أنشأنا فريق الانسانيات من أجل اعادة اعمار الثقافة التي انهارت بفعل الأسباب التي تكلمت عنها خلال الحديث ويفعل تماسك المد الأصولي، ففي فترة المد الأصولي كانت الثقافة الوحيدة السالكة هي الثقافة الأصولية. في حين أن الثقافة الحديثة والنهضوية هانت على خط التدرن وماتزال. واذا كانت الثقافة الأصولية تتراجع الآن فهذا ليس بفعل تقدم الثقافة النهضوية انما بفعل انهيارها الداخلي، اذن، هي الصدفة. ومشروع خطة الانسانيات يهدف الى اعادة اعمار ثقافي في لبنان من خلال اعادة الثقافة العربية الانسانية. لأن الثقافة الانسانية هي التي تحتاج الى بناء والى بناء طويل. والسؤال من أين نبدأ اعادة البناء؟ اعتقد أنه يجب البدء من البداية. يعني من خلال قراءتنا للنهضة العربية الأولى التي تبين لنا أن الجهد الكبير الذي بذله العرب قد أثمر والأنظمة القائمة هي من ثمار هذه النهضة. والدراسة المتأنية تبين أن الأمكنة التي تم التركيز عليها خلال النهضة العربية الأولى تم الوصول اليها لأن المطالب التي رفعت كانت واضحة. وأعتقد أيضا أن هناك مطالب لم تكن واضحة. كان العرب يريدون تأكيد الذات وأنهم من العصر وأثبتوا ذلك. والآن أعتقد أن النهضة العربية الثانية المطلوبة. أو التي تفكر بها النخبة العربية ليست مجرد أن نقول "انحن هنا" ليس مجرد أن نقول نحن معاصرون يجب الانتقال من موقع الخصوصية الدفاعية الى موقع المبادرة الكلية. أوضح ذلك :تقول الفلسفة العربية السائدة اليوم "فلسفتنا اقتصادنا، حضارتنا، ثقا فتنا" الـ "نا" هنا ضمير متصل مضاف ومضاف الى ثقافة والضمير هنا في موقع دفاعي. اننا ندافع عن ثقافتنا، عندما نقول فلسفتنا هي كذا، وبهذا تكون في موقع الدفاع ضد خصم غالب. ضد غرب غالب. وما دمنا على هذا المنوال، أي ما دمت مدافعا فستظل مدافعا طوال حياتك وفي أحسن الأحوال، ستستطيع أن ترد الخصم.
بهذا المعنى تدافع عن فلسفتك دون أن ترى متغيرات العصر؟
– بهذا المعنى أنك تعيد غلبتك ومغلوبيتك. وأعتقد أن النخبة العربية اليوم تفكر بل عليها أن تفكر. بمنطق آخر. العام اليوم كما سبق القول هو في أزمة. وعلى هذه النخبة أن تنقذ العام، ومشروعنا هو لانقاذ هذا العام وليس فقط لاعادة ترميم نهضتنا فنهضتنا لا ترمم الا بترميم العام وهذا الترميم يجب أن يبدأ بمكان ما. يبدأ من الانسانيات القائمة في الثقافة الانسانية، يعني أنا كمفكر عربي اليوم علي أن أفكر بلسان عربي بهموم انسانية ولكن لا يمكنني أن أفكر ما لم تكن مادة التفكير موجودة. "فريق الانسانيات " هو مشروع ثقافي لاحضار هذا التراث الانساني بالعربية تمهيدا أو مساهمة أو مشاركة أو بدءا بالنهضة العربية الشاملة.
حاوره في بيروت علي سرور (كاتب من لبنان )