لا تكمن أهمية هذا الكتاب في تصدّيه لمدوّنة هي من أعقد المدوّنات الصوفيّة وأكثرها غموضا والتباسا ، ونعني بذلك مدوّنة محيي الدين بن عربي ، وإنّما تكمن أهمّيته خاصّة في استصفاء «القوانين الكلّية» التي تنتظم كلّ أعمال ابن عربيّ وتوجّه فهمه لعمليّة الكتابة . وهو عمل متشعّب فيه جهد وطول تدبّر ويستدعي قدرة فائقة على الإصغاء إلى النصوص ، وحساسيّة مرهفة للتفاعل معها ، وجرأة كبيرة على «ملامسة الأهوال» التي تفتحها ( تلك النصوص ) أمام القارئ .
لا شكّ في أنّ الخطاب الصوفي قد ظلّ ، على امتداد عصور عديدة ، مهملا ، مقصيّا ، مهمّشا وربّما آل ذلك ، في نظر الباحث ،إلى القراءات التي أنجزت عنه. فتاريخ الخطاب الصوفيّ لا يتكشّف بمعزل عن تاريخ قراءته. وتاريخ قراءة هذا الخطاب هو عينه تاريخ الحجب التي سترته عن الأنظار على امتداد قرون عديدة.. فمن الحجاب الفقهيّ إلى الحجاب الإيديولوجي ثمّ بعده الحجاب العلميّ ظلّ الخطاب الصّوفي ضحيّة أحكام رسّخت تهميشه واستبعاده..
وليست هذه الدراسة إلاّ محاولة لرفع الحجب عن هذا الخطاب من أجل النظر إليه دون وسائط ..
يلاحظ الباحث ، منذ البدء ، أنّ إشكاليّة هذه الدراسة متشعبة بتشعّب موضوعها ، وهي ترتبط بآليات اشتغال الخيال في بناء الشيخ الأكبر لمفهوم الكتابة وفي ممارسته لها ، انطلاقا من الخلفيّة الانطولوجيّة والمعرفيّة التي تسنده .فلابن عربيّ تصوّر متماسك لفعل الكتابة ، وقد انخرط بهذا التصوّر في القضايا التي شغلت الشعريّة العربيّة القديمة لكنّ النقّاد القدماء قد تنكّبوا عن آرائه ومواقفه فلم يولوها العناية التي تستحقّ . والواقع أنّ ابن عربيّ لم يكن ناقدا أدبيّا وإنّما كان صوفيّا متأمّلا وتأمّله لمفهوم الكتابة لم يكن بمعزل عن ممارسته لها..فالشيخ الأكبر ، كما لاحظ الباحث ، لا يقارب مفاهيمه بناء على النظر الفكريّ المجرّد ولا يخضعها للتنظيم المنهجيّ وإنّما يحتكم ، في الغالب الأعمّ ، إلى تجربته الروحيّة ، وممارسته الكتابيّة .
الأساس الوجودي لتصوّر ابن عربيّ لفعل الكتابة
يفرّق الباحث بين تجربة الكتابة وكتابة التجربة لدى ابن عربي ، على الرغم من الوشائج الجامعة بينهما ، موضحا أنّ السفر الصوفي هو ، في المقام الأوّل ، سفر ذاتي غايته الأولى سماع صوت المطلق. وبسماع هذا الصوت تبدأ تجربة الكتابة . لكن الكتابة عند ابن عربي لا تتحدّد بوصفها فعلا إراديّا بقدر ما تتحدّد بوصفها تلقّيا وسماعا . الكتابة غير الصوفية مستمدّة من مرجعيّة إنسيّة تعتمد أقوال المؤلفين وتتوسّل بها في بنائها الدلالي أماّ الكتابة الصوفيّة فمرجعها غيبيّ يوجّهها ويحرّرها من شواغل البشريّة .إنها ترقّب وتهيّؤ للإنصات ، استعداد مستمرّ لحلول المطلق في الإنسان .
إنّ ابن عربيّ لا يتكلّم ، كما ردّد ذلك مرّات كثيرة ، إلاّ عن ذوق . وبهذه الخلفيّة المشدودة إلى تصوّره الوجودي وتجربته الذاتيّة يتأوّل كلمات اللغة ويرسي دلالتها الاصطلاحيّة الجديدة على نحو تغدو معه اللغة جزءا من التجربة …هكذا حمل ابن عربيّ الكلام على غير ما وضع له اعتمادا على فهم خاصّ للكلمة وذلك باستدعاء معنى منسيّ فيها وتوجيهه وجهة أخرى تحصل منه دلالات جديدة …فدلالة السفر ، على سبيل التمثيل ، لا تعني ، في الكثير من نصوصه الرحيل والانتقال وهو المعنى المعجميّ للمفردة وإنّما يعني الإظهار والإبانة ..ويعضد ابن عربيّ رأيه بالعود إلى بعض الشواهد . يقول في هذا السياق : سفرت المرأة عن وجهها إذا أزالت برقعها الذي يستر وجهها .. وقال الله تعالى «والصبح إذا أسفر «ومعناه إذا أظهر إلى الأبصار مبصراتها»… وتتضح هذه الآليّة في توليد الدلالة لدى ابن عربي انطلاقا من تأوّله للشجرة التي منع آدم من الاقتراب منها بناء على دالّها .. فالشجرة ، بالنسبة إليه من التشاجر أي الانقسام والابتعاد عن الوحدة .
ابن عربي والشعريّة العريّة القديمة
أوضح الباحث أنّ ابن عربيّ قد انخرط في الجدل القائم حول الشعر ، وتوسّل بتجربته في بناء وجهة نظره . وقد ذهب إلى أنّ قيمة القصيدة لا ترجع إلى وظيفتها الأخلاقيّة ، كما ذهب إلى ذلك عدد كبير من النقّاد القدماء ، وإنّما إلى وظيفتها الجمالية .يقول « جمال الشعر والكلام أن يجمع بين اللفظ الرائق والمعنى الفائق فيحار الناظر والسامع فلا يدري اللفظ أحسن أو المعنى أو هما على السواء، فإنّه إذا نظر إلى كلّ واحد منهما أذهله الآخر من حسنه، وإذا نظر فيهما معا حيّراه..» واختلال أحدهما ينجم عنه بالضرورة تراجع القيمة الجمالية للقصيدة .فعلاقة اللفظ بالمعنى هي عينها علاقة الصورة بالروح .
لم يتأثّر ابن عربى خطى النقاد الذين اتخذوا من الأخلاق معيارا للحكم على الشعراء بل كان المعيار الذي أهاب به، وهو يقلّب ديوان العرب ، هوالمعيار الفنّي ..في هذا السياق نفهم تمجيده للشاعر أبي نوّاس الذي اعتبره «شاعر وقته».فقيمة هذا الشاعر العباسي تكمن ، كما أوضح ابن عربيّ ، في ما يسمح به شعره من عمق في التأويل .
لكن أهمّ ما استخلصه الباحث من هذه المدوّنة هو جنوح هذا الصوفيّ الكبير إلى إلغاء الحدود القائمة بين الشعر والكتابة..ولا غرابة في ذلك بما أنّ الكتابة الصوفيّة قد ظلّت تسعى إلى استرفاد خصائص الشعر للتعبير عن تجربتها …
لقد حاول ابن عربيّ إقامة جسور عديدة بين الكتابة والشعر حتّى ليظلّ الفارق الوحيد بينهما مقتصرا على الوزن والقافية.وهذا التداخل بين هذين الجنسين نلحظه بوضوح في ممارسة ابن عربي النصّية …هذه الممارسة التي قوّضت الحدود بين الشعر والكتابة.
لقد أتاحت كتابة ابن عربيّ إمكانات جديدة لتحديد الشعر من خارج الوزن والقافية وهو أمر لم يكن ممكنا استيعابه في زمنه ، لهذا لم يول النقاد أيّة اهمّيّة لما قاله ابن عربي ولم نجد له أي صدى في آثارهم .
بناء الخطاب لدى ابن عربي
انتقل الباحث ، في القسم الأخير من دراسته ، إلى تأمّل الممارسة النصيّة لدى ابن عربيّ. وانعطف في البداية على تأمّل تجربته الشعريّة فلاحظ وجود قصائد نظمها الشيخ الأكبر لا تتوافر فيها مقوّمات الشعريّة فهي مجرّد نظم تعليميّ يطغى عليه تقرير حقائق ومعارف صوفيّة في قالب موزون . لكن إلى جانب هذه النصوص التعليميّة نجد قصائد وموشّحات تمكّن من خلالها ابن عربيّ من تحقيق شعريّة عالية ويعدّ ديوان «ترجمان الأشواق» خير دليل على ذلك .
ولهذا الديوان كما لاحظ ابن عربي ظاهر وباطن .الظاهر أنّه يدور على غرض الغزل متغنّيا بالنظام بنت مكين الدين رستم لكنّ باطنه تمجيد للذات الإلهيّة .
هذه الثنائية ، ثنائيّة الظاهر والباطن ، تتجلّى أيضا في معجم القصائد.فابن عربيّ قد استنبت معاني جديدة للكلمات إلى جانب معانيها القديمة. وبذلك أصبح للمفردة وجهان ظاهر وباطن
«والعلاقة بينهما تنفتح ، في ضوء هذه الثنائيّة على تشعّب أكثر تفرّعا وخصوبة…» وهذا الغنى الذي وسم تعامل الصوفيّة مع اللفظ يجعل القراءة مفتوحة على احتمالات تأويليّة شتّى .
إلى جانب الشعر توسّل ابن عربيّ بأنماط كتابية كثيرة للتعبير عن مواقفه ورؤاه( الكتابة السرديّة ، والكتابة المعجميّة ، والكتابة الشارحة ) وأهمّ هذه الأنماط الكتابة الشذريّة ، وهي الكتابة التي تقوم على الاختزال الشديد بحيث يعبّر اللفظ الأقلّ عن المعنى الأكثر . وقد تجلّت لدى ابن عربيّ في الشطح والوقفة والمقام والمشهد وكلّ هذه المصطلحات تحيل عل نصوص مكثفة تفصح عن تجارب وجودية.وقد احتفى ابن عربيّ ، على وجه الخصوص ،بالوقفة التي استلهمها من كتابات النفري ويتجلّى ذلك واضحا في كتاب «مشاهد الأسرار القدسيّة ومطالع الأنوار الإلهيّة..» الذي هو كتابة جديدة لكتاب المواقف للنفري .
إنّ هذا البحث الذي قرأ تجربة ابن عربيّ من زاوية جديدة إنّما يدعونا إلى إعادة بناء الشعريّة العربيّة في ضوء المسالك التي وضع معالمها ابن عربيّ . وهذا البناء من شأنه
أن يكشف لنا عن غنى الشعرية العربية واتساع آفاقها..وهو أمر لم يعترف به نقادنا القدامى حفاظا على تماسك النظريّة الشعريّة التي أنجزوها .
محمد الغزي\
\ شاعر وأكاديمي من تونس