17 يونيو 2014:
ما الذي تتوقع أن تقرأه في مجلة أعدت لتزجية الوقت في الطائرة؟
ربما بعض الأخبار الخفيفة؟ بعض التقارير عن المدن الجميلة في العالم؟ دعايات للسوق الحرة؟
مجلة الخطوط الجوية الكورية لديها فكرة أخرى: ملف متكامل من عدة صفحات عن الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو.
ملف مذهل عن الفيلسوف يضم أروع الصور له في مكتبته، كما يضم مقالات عدة عن حياته، عن فلسفته، وعن أهم كتبه: « تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»، «نظام الأشياء»، وغيرها. ماذا يفعل معجب بفوكو مثلي إزاء هذه المفاجأة؟ ساعة الطيران من سيئول إلى جيجو لن تكفي لقراءة الملف كله، وتركه مرميا في جيب المقعد شاق على نفسي؛ مع كل الاعتذار للخطوط الكورية أخذت مجلتهم الثمينة.
لكن هذا الاهتمام بالفلسفة والفن والأدب لم يكن مفاجئا تماما بعد الأيام التي قضيتها في سيئول، حيث حدثني البرفسورجياونغ كيم، أستاذ الأدب الكوري، ورئيس تحرير مجلة الأدب العالمي، عن أن الشعب الكوري الذي نراه في الشوارع مستغرقا في هواتفه الذكية لا يكن في الحقيقة أي احترام لرئيس شركة سامسونج، ولا لرئيس هايونداي، لأنهما شركتان لا تهتمان بغير المال. قال جياونغ: نستخدم منتجاتهما ولكن لا نحترم قيم المال التي تمثلها أمثال هذه الشركات. ارتشفت الشاي الأخضر الذي عزمني عليه وأنا أسأله: «من يحظى باحترام الشعب الكوري إذن؟»، قال بثقة: «العلماء، أساتذة الجامعات».
هذا الشعب السعيد الضاحك، يعمل كالنمل وقت العمل، ويمرح بلا توقف وقت الراحة، ترى البشر من كل الديانات: الطاوية والبوذية والمسيحية والكونفوشسية، لا أحد يسأل الآخر عن عبادته وربه، لهم دينهم ولك دين، ولكنهم جميعا يحترمون التقاليد التي انحدرت من الكونفوشسية: احترام المعلم، قال جياونغ: إن هذا أمر طبيعي مادام كونفوشيوس نفسه كان معلما. لكن ألم يكن رسولنا محمد معلما؟ فمالها مكانة المعلم في مجتمعاتنا في انحدار لا مثيل له؟ سألت جياونغ إن كان المعلمون يفكرون في الإضراب في كوريا، فظن بأني أمزح معه؛ مكانة المعلم الاجتماعية والمادية لا تقل إطلاقا عن مكانة الأطباء والمهندسين.
أسعدني هذا الحديث فأكملت جولتي في معرض الكتاب الدولي في سيئول قريرة، المراهقات في عائلتي أبدين الحماسة لسفري إلى كوريا وزودنني ببعض الكلمات من المسلسلات الكورية التي يدمنَّ عليها، منها كلمة «أحبك» التي بطبيعة الحال لم أحتج إليها! القيم التي يعيش عليها المجتمع الكوري لا تعكسها المسلسلات وإنما تجسدها الحياة اليومية لهذا الشعب المبتسم، المتعاون، المتسامح. أستوقف الكهول والشباب والفتيات لأسألهم بالإشارات – صادفت قلة ممن يتحدثون الإنجليزية – عن مكان ما، فيخرجون فورا هواتفهم الذكية، الخرائط ومزيد من الإشارات، ثم انحناءة خفيفة منهم تتبعها مثلها مني. لا تحديق، لا رفض، لا استنكار، بل إنه في مرتين على الأقل وقفت سيدتان في الطريق بجانبي للتصوير معي.
في الإفطار كانت المقالي واللحوم والخضروات تملأ الطاولة، وقفت أحدق فيها وقررت تجربة الكيمتشي، الأكلة التي تقدم في كل وجبة، ملفوف مخلل بالشطة، ثم عدت لوقفتي ولساني محترق. أشفق النادل المبتسم علي فأخرج من مخبأ ما قطعا من الخبز، أخذتها منه شاكرة. وقلت في نفسي: في الغد سأكون أكثر شجاعة. وهكذا لم أستسلم لشطة الكيمتشي وظللت أتذوق منه قليلا في كل مرة.
في الحافلة المتجهة لإيتاوان، الموطن الروحي لمسلمي كوريا، ظللتُ أنط كل خمس دقائق من كرسي لأعرض ورقتي المدون عليها اسم المحطة بالكورية للسائق، فيرد علي بنفس الكلمات التي لا أفهمها وأرد عليه بنفس الجملة: «لكنك ستخبرني حين نصل، صح؟»، وهكذا حتى اكتشفت بالصدفة إني وصلت فقفزت من الحافلة إلى المحطة.
هذه إذن إيتاوان، مطاعم مراكش ودبي والبتراء، وأسواق الشوارع والعربات المفتوحة، الجامع في جهة، والبارات في الجهة الأخرى. لكن الوجود العربي هنا يكاد يكون نادرا، أما الكوريون المسلمون فعددهم لا يتجاوز خمسة وأربعين ألفا. تعجبني هذه القبعة لابني ولكن ثمنها يعادل ثمن فستان سهرة، قلت في نفسي: «لا بأس، فهو سيفضل الألعاب على القبعات في كل الأحوال». أتجول في إيتاوان حتى أتعب، أمنِّي النفس بحجز القطار والسفينة إلى جزيرة جيجو فيصدمني وقت الإبحار: إحدى عشرة ساعة، أستسلم لخيار الطيران، وأتفق مع الموظفة الرقيقة على استلام تذكرتي بعد ساعة، لأجدها في انتظاري رغم انتهاء وقت عملها الرسمي، لم لا تقام دورات للموظفين العرب لتعلم رقي التعامل في كوريا؟
أخذت المترو إلى نهر الهان، نظام المترو دقيق للغاية، ولكني خرجت إلى المحطة فلم أجد أي نهر، ربما تهديني نسائم الماء للاتجاه الصحيح؟ لم تهدني فليفعل البشر، أشار لي الفتى المتريض في حديقة مجاورة أن أذهب في اتجاه اليسار، وبعد بعض الوقت وجدته يلهث أمامي إذ لحق بي ليخبرني إنه أخطأ في الاتجاه وأشار لي لجهة اليمين. لم يحتج هذا الفتى قطعا لكل دروس الأخلاق التي تحاول مدارسنا بثها بالخطابة والوعظ في نفوس أطفالنا وفتياننا، فالقيم يُتربَّى عليها بقطع النظر عن الانتماءات الدينية ولا يُتشدَّق بها. لم يقل الفتى إن هذه الغريبة قد ابتعدت فعلا وستجد غيري من يرشدها إلى الطريق الصحيح، بل ألزم نفسه بالجري وراءي حتى وجدني وأرشدني.
قضيت على نهر الهان وقت المساء الطيب، وقت السلام والطمأنينة، ناطحات السحاب تعكس أنوارها على النهر، ولكنها في شأنها، ونهر الهان المترقرق بأرواح أسلاف الكوريين وحضارتهم الشرقية العظيمة في شأنه. على حافة نهر الهان وجدت بائع الألعاب واشتريت منه الصاروخ المحلق بالألوان لابني. أحسست إني لو طيَّرته في التو إليه سيصله، وستصل معه روحي وقد صفَّاها النهر.
في صباح اليوم التالي قررت الذهاب إلى القرية الشعبية الكورية، وكالعادة لم تسعفني اللغة مع سائق الحافلة، ولم أجد بين الركاب من يتحدث الإنجليزية، فكما هو شأن الدول القوية، تبدي كوريا اعتزازا كبيرا بلغتها، على الرغم من المحن التي مرت بها إذ قُمعت هذه اللغة أثناء الاستعمار الياباني لكوريا في محاولة للقضاء على الهوية الوطنية الكورية،وأجبر الكوريون على الحصول على ألقاب يابانية تعرف باسم سوشي كايمي. على أية حال كان قلقي وإزعاجي للسائق كل بضع دقائق بلا جدوى لأن الحافلة استمرت في السير لما يزيد عن ساعة ونصف حتى أشار لي السائق بالنزول.
تصور القرية الشعبية الكورية حياة الشعب الكوري في الأزمنة القديمة، هنا تجد ممثلي المهن: الحداد والنجار والبائع والبستاني، كما تجد المعمار الكوري المميز: بيوت الإقطاعيين وبيوت الفلاحين، وبالطبع بيت العالم والمعلم الذي يحظى بمكانة رفيعة. شاهدتُ عرضا للفروسية، وعرضا لعرس تقليدي، حيث تجلس العروس على هودج يُحمل على أكتاف أربعة من الرجال في حين يتقدم الموكب العريس على حصانه، يلحق بهم حاملو متاع العروس. عبرت جسر القوس الحجري، الذي يشكل رمزا دينيا بوذيا بتقوسه على الماء، وأحسست لوهلة إني في قلب حضارة جوسون القديمة، التي نقل مؤسسها «تايجو» العاصمة إلى هانسونغ (سيئول). بعد بضع ساعات من التجوال نال مني التعب، فتناولت وجبة «البان كيك بالخضروات»، وهي وجبة شعبية قوامها البيض والخضروات ولكنها بلا ذرة ملح، ولا أظن إني سأصبح رغم محاولاتي المتكررة من المعجبين بالمطبخ الكوري، ففي المساء شدتني الضحكات الفرحة من مطعم بحري بالجوار، فاتخذت مكانا لي وسط الضاحكين، فوجدت موقدا للطبخ على طاولتي وقدرا عظيما مليئا بالمحار وثمار البحر، قلَّد النادل حركات الدجاجة صائحا : باق بيق، ليسألني إن كنت آكل البيض، وكوَّرتُ يدي لأريه شكل الملعقة، لأني لا أجيد استخدام عصي الطعام ولا المقص الذي يبدو أنه أهم أداة في المطبخ الكوري. ظل القدر يغلي أمامي وظلت النادلة الصغيرة ذات البشرة الخارقة الصفاء تقص بمقصها الأنيق المحارات وأرجل السرطانات، وأنا آكل متناسية رغبتي ببعض البهار، وحين فرغتُ من الطعام أعطيت الفتاة التي لم تكد تتزحزح من أمام طاولتي وموقدي معاونةً لي بعض البقشيش، فاستنكرت ورفضت، فودعتها ثم عدتُ غافلة إلى الفندق عما ينتظرني من ليلة أرق، رفضت فيها معدتي خليط البيض وثمار البحر ومهروس اليقطين.
التقيتُ بميكيل، مترجمتي من الإنجليزية إلى الكورية، لاحظَتْ أننا مواليد السنة نفسها وأنني –مثلها- أم، أدارت وقت الكلمة المخصصة لي بمهارة، وأسعدني حضورها الطيب، أما الجمهور الذين استمعوا لي ولها، فسألوني عن ديانة بلدي، وعن البخور العماني، وعن تجربتي في الكتابة، وعن موضوع روايتي القادمة. اكتشفت فيما بعد أن فيهم تجارا ترتبط شركاتهم بعقود تجارية مع عمان، ولكنهم يحرصون، مثلهم مثل طلبة اللغة العربية في الجامعات الكورية، على حضور ندوة أدبية.
قد لا يتصور المرء في هذا النمر الاقتصادي أن هناك طلابا يقبلون على العلوم الإنسانية، ولكن البروفسور جياونغ يؤكد العكس. يحظى الأدب بتقدير عالٍ في كوريا، وتنفق الدولة على الثقافة والمهرجانات الأدبية أضعاف ما تنفقه دول أخرى، جياونغ الذي يعتز بلقائه مع محمود درويش، يحكي بفخر عن مناصرته للعرب وللقضية الفلسطينية، ولكن – يستطرد جياونغ- في الواقع فإن الاهتمام بالثقافة العربية ضئيل جدا في كوريا. سألت أستاذ اللغة العربية في الجامعة، الدكتور موسى كيم، الذي ترجم الشاعر الكوري الكبير تشو او هيون إلى العربية، عن عدد الطلبة الذين يدرسون العربية، فقال إنهم قلة، حوالي مائتين. لا أعرف هل أضحك أم أبكي، فهذا العدد يفوق بأضعاف دارسي اللغة العربية في عمان.
20 يونيو 2014: جيجو، هبة البركان
من نافذة الطائرة، تبدَّت عبر الغمام الجزيرة الساحرة، هبة البركان، جيجو.
من الوهلة الأولى عرفت في جيجو ملاذا آمنا للروح، تعانق الجبال الخضراء والبحر، والبنايات المنخفضة الارتفاع، وصوت الموج من نافذة غرفتي. أصحو على هذا التعانق الفذ للبحر والجبل وأنام على صوت الموج، أفكر في آلاف الأسماك والكائنات في قعره، وأفكر في النساء الغواصات اللواتي يجمعن قواقع للطعام.
سوجي-مين تحتفل اليوم بإكمالها مائة يوم، أهداني أبواها –صاحبا الفندق العائلي- بعض الحلوى الكورية، من الواضح أن السكر يُضاف إلى الأرز وإلى الخضار وإلى اللحوم، ولكنه لا يُضاف إلى الحلوى. الجزيرة جنة على الأرض، ولكن الطعام أصبح هنا محنة حقيقية، فبعد الضجر من فطائر الفاصولياء بالسكر، والسوشي الكوري والبييم باب (الأرز والخضر بالشطة)، اشتريت الأرز والبصل والطماطم والروبيان من أقرب محل للفندق، وهو يبعد بالسيارة حوالي نصف ساعة، وطبخت لنفسي وجبة بالملح انتهت بإحراق قدر عائلتي الجديدة- مالكي الفندق.
أرقب الصيادين والصيادات على امتداد الشاطئ المقابل لنافذتي، ثم أصبحت مثلهم؛ بسنارتي جلست على الصخور، الشمس توشك على الغروب وأنا أصيح مع كل غمزة لسنارتي، في النهاية اصطدت سمكتين جميلتين فأهديتهما لأم سوجي-مين، التي أتواصل معها بالابتسامات فقط.
تعتبر جزيرة جيجو – الواقعة قبالة الساحل الجنوبي – جزيرةً بركانيةً كبيرة ويعتبر جبلها (جبل هالا) الأعلى في كوريا الجنوبية بارتفاع 1950 مترا، أما قمة «طلوع الشمس» فهي ما أسعدني هنا، حيث تسلقت مئات الدرجات إلى قمة الجبل المنتهي بصخرة هائلة منبسطة، تحكي الأسطورة أن الإلهة التي بنت الجزيرة كانت تحمل الأحجار لبنائها في الليل على تنورتها، وتضع مصباحها في المساء على الصخرة لترتق ثقوب تنورتها الممزقة من الصخور والعمل الشاق. السياحة الداخلية في كويا مزدهرة وأغلب السائحين من الخارج يأتون من الصين واليابان، أما امرأة «بعيون كبيرة» بالنسبة إليهم فموضوع يستحق التصوير!
صَعَدْتُ أعاليَ جَبلِ (نامسان)
راقبتُ الشمسَ وهْيَ تأفلُ غاربةً
كانت مدينة (سيئول) سربًا
من زبدٍ أحمر داكن يتغرغر
هذا هو جسدي؛ لم يكن أكثر من مجرد عَلقةٍ
عالقةٍ في ورقةٍ طحلبٍ في هذا السرب
تشو أو هيون
جوخة الحارثي \
\ روائية واكاديمية من عُمان