دعني أفاتحك أي أشعر هذه الليلة أكثر من كل مرة أن لا حواجز بيننا نير هذه الطاولة.. فقد كنت آنذاك على أهبة الخروج من السجن، وكانوا قد زجوا بي هناك بين سراديبه لسبعة أشهر، بعد مشاركة في تظاهرة صاخبة، وهي المرة الأولى والأخيرة التي خرجت بها في تظاهرة. لا لم أكن في العشرين بعد. كنت في السنة الأخيرة من المدرسة الثانوية، في سن بين السابعة عشرة والثامنة عشرة. أنت تعرف فورة المشاعر في تلك السن ومدى القابلية لتحمل الصدمات وقد شعرت بالنقمة لا بالقهر على ما حدث، فإن تنفتح مشاعرك ويشب اهابك بين جدران سجن فذلك يصيبك بنقمة مضاعفة مع شعور هائل بالتحدي، أما لو حدث مثل هذا الأمر في هذه الأيام، فلاشك أنه سوف يصيبنا بتعاسة عظيمة قد لا نبرأ منها أبدا.
ألم أحدثك عن الأهرمن قبل؟ كنت أظن أي فعلت. كانت هناك ساحة خلفية ملحقة بالسجن، كنا نمارس فيها التريض مرتين في الأسبوع، والمرة الواحدة تستغرق ساعة. لكم شعرت بالامتنان لهم على تلك الفسحة، ولا أعرف ان كانوا هذه الأيام يتيحون للسجناء فرصة التريض. كنا نركض على الخصوص ونزاول لعبة كرة القدم قبل أن يهيئوا لنا فرصة القفز على الحواجز الخشبية. لم أكن رياضيا في المدرسة، على أن مواهبي الرياضية برزت بل تفجرت في السجن، حتى أي نافست لاعبين محترفين (سجناء مثلي) وكسبت عداواتهم لي، لقد أردت أن أستعرض كل ما بوسعي استعراضه من لياقة وبراعة لتبييض صفحتي، لعل ذلك يدفعهم لافراج مبكر عني. كنت موقوفا ولا أعرف لأية فترة سأمكث وراء القضبان، غير أنهم وقد اكتشفوا أهليتي للعب تشبثوا بي، من أجل المشاركة في مباريات مع فرق أخرى على ساحة ملعبنا نحن، وكان فريقنا غالبا ما يفوز. لقد سارعوا لاخلاء سبيل الكسالى والخاملين واحتفظوا بي. لا لم يكن هناك تعذيب أوما شاكله فلم يتعد الأمر توجيه إهانات يومية يدور معظمها حول الرجولة، وبهذا لم أشعر فقط أي أنمو تحت سقف واطيء بل في جو معاد، يشكك كل ساعة في بلوغي مرحلة الرجولة، باستثناء ساعة الرياضة وهي ساعتان في الاسبوع الواحد. كنت أبدو في نظرهم آنذاك محبوبا ومثيرا للاعجاب والثقة، فما ان تقتضي الساعة حتى نؤوب كالقطيع الى أو كار معتمة.
أعرف أن هذا الحديث لا يبعث لديك الشعور بالتسوية. ولكن ما حدث مضت عليه أربعون عاما وأكثر. إنها محض ذكريات، ومنها تلك الحادثة كنا نخوض مباراة في القفز على الحواجز مع فريق آخر يتبع أحد النوادي، على ساحة ملعبنا. قالوا لي إنهم يراهنون علي لتحقيق أعلى النقاط، وان كنت والحق أراهن على نفسي بعدما ثبت لي ولهم أي متفوق في اللعبة، وتساعدي على ذلك ساقاي الطويلتان. انها سبعة حواجز متتابعة، وطالما قفزت فوقها دون ارتكاب أخطاء. كان الوقت يؤذن على الغروب، ولم أفهم لماذا اختاروا هذا التوقيت للعب مع اضاءة شاحبة. حتى أنهم لم ينبئونا من قبل بموعد المباراة، على أن المفاجأة أبهجتني، خاصة وأنها كانت ساعة اضافية للرياضة. لن أطيل عليك، اني على وشك الانتهاء على أية حال، لقد قفزت فوق الحواجز السبعة دون اقتراف خطأ واحد، ودون الشعور بأي ارهاق غير عادي. على أني لدهشتي اكتشفت في تلك المرة أن الحاجز السابع ليس الأخير، وأن عدد الحواجز بات بلا حصر وأنه يتعين علي القفز المتتابع دون توقف. الحراس والعمال ومعهم أولاد أحضر وهم للمناسبة يصفقون ويهللون لي مع كل قفزة صحيحة، حيث تتناهى أصواتهم الى مسامعي كأنها تنبعث من مكان سحيق. ولم أكن بالطبع لأتبين وجه أحد منهم، اذ كانت أنظاري شاخصة على الحواجز أمامي، باستثناء المدرب السجان الذي كان يهتف لي ما إن أنهي القفز على الحاجز السابع قائلا بنبرة قاطعة: أكمل. ولم أكن لأتوانى عن الصدوع لأمر أو ما خلته آنذاك الاستجابة للتحدي، حتى سقطت مفشيا علي فوق أحد الحواجز نتيجة اندفاعي الجامح والخاطيء، والأصوات الأخيرة التي سمعتها هي أصوات قهقهاتهم التي أخذت تنوق رأسي. أنت لا تصدق ذلك، أنا أيضا أكاد لا أصدق ولا أفهم ما حدث. فكيف الحواجز في ساحة محدودة يحيط بها سور صفيق عال أن تظل تتناسل أمام ناظري، ولا أعرف اذا كان فريقنا قد فاز أم خسر. لعلك تتصور الآن أن ما حدث لا يعدو كونه كابوسا. وذلك من فرط شغفي آنذاك باللعب ولهفتي على الفوز وخشيتي الشديدة من الخسارة. أنا أحيانا أفكر مثلك، وكأن الذي حدث وقع لغيري. انك تتشكك بما أقول ولو كنت في موقعك لذهبت بي الظنون الى مثل ما ذهبت أنت، لكني استيقظت بعدئذ من غيبوبتي على هتاف أحدهم لي: إفراج. كان يوما جديدا قد أشرق. وتحت وطأة الإعياء والذهول لم أشعر بأي طعم للحرية حين خرجت، وفقدت من بعد أية رغبة في مزاولة الرياضة.
لقد أضجرتك حكايتي، إنها انتهت على أي حال، وأعرف الآن أين ذهب بك تفكيرك. إن ذكاءك يسعفك هذه المرة كما في كل مرة. لست صديقي الأثير دون سبب، فقد كانت الحواجز حقا وكما هي دائما سبعة فقط. لكني كنت ما إن أكمل القفز على الحاجز الأخير حتى أستدير تحت ضغط هتاف المدرب لي بأن أكمل. استدير آليا بسرعة خاطفة وكالمأخوذ لأشرع في القفز مجددا ابتداء من الحاجز الأخير، وبذلك ظلت الحواجز تتعدد وتتابع أمام ناظري دون نهاية. إن ما فكرت به صحيح، ولكن ذلك لا يغير في الأمر شيئا، فمنذ ذلك اليوم وحواسي مستيقظة وانتباهي يتركز على تفادي الارتطام بحواجز لا تنتهي، منذ ذلك اليوم وحتى جلوسي معك الليلة الى هذه الطاولة، الى هذا الحاجز الذي يحتجزني وراءه، رغم أنه بمعنى آخر والحق يقال لا حواجز بيننا.
محمود الريماوي (قاص من فلسطين)