المجهول يختبيء في المجهول
الشعر تلك المفردة ، المشاكسة ، الغامضة ، الدالة على شبحية حالة واستشرافات صورية باطنية ، وأحلام ، وكثافة مشحونة بما وراء العقل ، تقارب ، تقرب السحر فيما يكتنهه من لامعقول وميتافيزيك ، خارج العقل (المتنون ). ما كان الشعر ظاهرة ولا قانونا ، أو فرضية حددت بالنص ، وأرجعت اليه فقها وقواعد ونحوا، ولا منتج فائدة مادية ترهنه فيرتهن بها.يقبل التصور والتأويل والتحليل والمقاربة ، ولا يقبل التعريف ، وما أتعب إليوت نفسه حينما قال :"ما فائدة أن نعرف الشعر؟!" فالشعر ليس قيمة موضوعية (مادية كانت ، أو معنوية ) تتوسل الخطاب الثقافي الاجتماعي أو الاخلاقي الديني، والسياسي والعلمي، انه الكل في روح شخصية واحدة ، وحيدة متفردة وهائمة ، هي روح الشاعر الذي لا يشبه أحدا ولا يشبهه أحد. انه (الشعر)، غير معرف ولا يعرف لأنه ببساطة غير موجود إلا في ذاته ولذاته . هو ماهية الماهيات ، (تعالجها) العلوم الوضعية قسرا فتلبسها لبوس المعقول ، لتردفها الى قانون (مفيد) يقبله السوق كسلعة ، مثله مثل الورق الذي يكتب عليا ، فيخرج الشعر من كونه شعرا، الى آلة تفريخ تنتج الكلمات ، وفق اشكال النوع التابع للعرض والطلب .فاذا كانت للأشياء آلية عمل معينة تعمل وتتوقف عندها، ويتحكم "ذاتي بشري" لتصبح مفيدة ونافعة فما سر آلية الكتابة الشعرية ، كيف تعمل ومتى:؟ ان الغموض المحيط بمختبر المخيلة الشعرية ، أقرب الى التطلع الانساني الأبدي نحو الخلق ذاته ،رغم تعريف وتفسير من الأديان له ، لكن السر يبقى بعيدا وعصيا على الادراك في سر الخلق عينه والخالق ذاته .
قال ابن طباطبا "أجمل الشعر أكذبه " فهل الجمال /العذوبة الحلاوة كذبة إذن هناك بين (شعر وجمال ، عذب ، حلو، وكذب ) مقاربة جسورة من الأولين ، بين الباطني المتماهي لذاته ، وبين الاجتماعي المتوسل قولا مقبولا، نافذا الى قلب نقطة محددة بسؤال كيف يكتب الشعر؟ بجوابه هكذا على الأقل بمفهوم أخلاقي هو (الشعر) المفيد والمقبول اجتماعيا والآلة المصنوعة بدقة وجمال لخدمة خطاب محدد ومقصود. أي الخطاب الاجتماعي المنتج
لقيمة خامية دونية ظاهريا ، كذا نفهم قول ابن طباطبا السالف ، فيما يستبطن القول الكثير، حيث أسباب الشعر روحية سامية غير مدركة خاصة ولا تاريخية .
(الجمال /الحلاوة / الشعر/الكذب ) مقتربات لحالات الشعر وليس للشعر كماهية ، فما يعتري ذهن الشاعر حين تنبثق الأفكار والصور وتطو النداءات الخفية من عمق أعماقه ، إنما مفاعيل غريزة شخصية محضة ، غير مثبتة ومزمنة ، جوهر ماهية الماهيات ، لا قبل لها إطلاقا تخلق الجمال الأولى (الماهية الأولى لم هي اذن الفريزة تهرع (مما وراء الجمال لم ، (لتنتج !/ بدورها المخيلة (الماهية الثانية ) العاملة على الغاء المدرك والمحسوس وابطال العقل . وبالتجربة فمن يعايش المخاض الأول لكتابة قصيدة ، سيلاحظ فيما بعد، أن احساسه بما حوله ، قد تلاشى وأصبح مخدرا بقوة عمل المخيلة . المقترب الأول غريزي: غير خير ولا شرير ليس أخلاقيا ، هو من طبيعة الجوهر الانساني وصلبه ، بلا نوديا، وقصده (جميل )، والمقترب الثاني : الجميل يحتمل في صيرورة ذاته الغامض والسري والمدهش والمفاجيء كما نقف على أعتاب غابة بكر، يكاد جمال دغلها بوروده وأ شجاره وبراعمه وطيوره أن يذهلنا، ولكننا قبل ولوجنا إياها سنحسب ألف حساب لخطوتنا والمخاطرة تلازم العريزة ، لزوم محاولة ادران ما لا يدرك إلا بالتجربة ، لكشف كنه مجهوله حتى سبر أعماقه بحب وخوف في آن . فا لفضول البشري لا حدود له ، يتخيل الأذية والأشباح والموت والعذاب ولكنه يغامر تحركه المخيلة ، تخضه ، تتملكه ، ليبتدع أسلوبا يسلك سلوكا يتبع نداء بعيدا نحو وهم ذاته ، صوب ما يتوهمه كي يحققه وهو المقترب الثالث .
الشعر نحبه حلوا،سوى أننا لا ندركه بسبب غموض مصدره ، نرهب جانبه ، وكثيرون جهدوا لاكتشاف دوائره وفضولهم النقدي يقترب وجلا من منابع تعاريفه ، يجازفون دونما جدوى يفتتحون طريقا، يسلكونه ، واذا الدرب دوران في متاهة .
الشاعر مرهوب الجانب محترم ولسان القبيلة العربية سابقا، بكونه غير مفهوم الا بقدر ما يقوله وحتى مقدار قوله مجهول المصدر، لا قدرة لامريء على تعريفه وتقصي أثره . فمن يتقصى أتي شيطان الشعر ووحيا ينزل لا أحد يعرف من أين كيف ومتى؟
الدارجة العربية اللبنانية تلهج بأن هذه قصيدة (حلوة )، وذاك شاعر (مر)، لكن نحو الدارجة ينحو العكس فالشاعر (المر) شاعر (حلو جدا) بينما يلتفت الشاعر رامبو صوب مفارقة أخرى اذ يقول في مطلع قصيدته "فصول في الجحيم " : "أجلست الجمال على ركبتي فوجدته مرا" ! الجمال يرتبط في صورة أو أخرى " بالجنس والاتصال الطبيعي فالمحبوب هو الجميل والمرغوب غريزيا ، بالجمال تكون الحياة وتستمر والشعر في منزلة بداية الخلق ، واستمرار له أيضا كما (الجمال ؟لا الذي لم يكن يوما محط تعريف مطلق ، الجمال نسبي ومطلق مرة واحدة ، وخارج التعريف ، وما كلمتا جميل وقبيح الا تسميتا تفريق وتقنين لأنواع علمية ، ثم تجارية خالصة ذوقية محسوسة غير تامة .
يحيلنا ذلك الى ما قال ابن طباطبا (أجمل الشعر أكذبه )، وأجمل هو اسم تفضيل من وزن واحد (أفعل ، أفضل ) وهو مذكر ، ومؤنثه : (فعلي ، فضلي ).
ولنن قال (أجمل الشعر أكذبه ) ففي سياق قصدية الذائقة حولتها وتتحول عندي الى قصدية (لغوية تحليلية ). والفارق بين الاثنتين هو الغريزة قصدية الذائقة : غريزية وقصديتي اللغوية : ذات طابع زمني قانوني محدد، هو زمن وضع قوانين اللغة . الذائقة لا زمن لها، أما اللغة فمزمنة الذائقة لا قياس لها عكس اللغة والنحو وقوانين النظم ، اللغة عقلانية والذائقة غريزية .. نعود الى مالنا : الشعر قبل الجمال والمخيلة والذائقة واللغة عين الوقت ، الذي ينتج خلاله الشعر: الجمال والمخيلة والذائقة واللغة ليصبح هو ذاته ماهية الماهيات والقول قولنا أننا لا نبحث سوى في آلية الكتابة الشعرية (القول الشعري) وسنكون منتبهين لذلك اذ ما إن تندفع تيارات الجمال تدور طواحين المخيلة ، لتزحزح الشاعر خارج زمنه رجوعا الى الأزل ، (زمن كتابة القصيدة ) حالئذ تنهال الكلمات والجمل والشذرات الصورية ، بدون كينونة شعورية غير كينونة الدافع الأول ، المخاض البدائي لكتابة القصيدة يصير الوازع الخفي، من مجاهيل سحيقة للنفس البشرية كلمات مادية مقروءة حيثما يغادر الجمال ظلامه الخاص ، الى النور كي يمسي ذاته الثانية المقنعة (غير حقيقية لا غير لكونها كلمات على ورق ، تومي، لكائن آخر (القاريء) تدغدغ غرائزه وشفاف روحه تنفذ الى ذات الامكانية التي انطلق منها، أول الأول بواسطة المخيلة ، فيقرأ القاريء ويعجب منها (القصيدة ) ، أنى تخبره بأشياء يعرفها ويخاف أو يعجز عن قولها . لواعجه تستعين بالشاعر ليقولها، ويقول عنها ما كانت وما تكون وما ستكون ، الشاعر يخلق القاريء وبالقاريء يفقد الشاعر بدائيته الشعرية ، يفقد غريزته البكر وسرا من أسراره يصير الشاعر قصيدة / لغة ، ثم يتلاشى خلف التاريخ النقدي للقاريء لعينيه اللتين تفصلان دوما بين الشاعر والقصيدة وبين الشاعر واللغة ، فيغترب الشاعر، يغرب حتى يموت اللغة تغرب الشاعر، كما النقد ، كما القاريء اذ تحوله تاريخا وقيمة اجتماعية بدرجة قريبة من صناعة الحلوى من السكر ، فلا يعود هناك سكر بل حلوى فقط . اللغة اشارات طريق تدل القاريء على مكان يذهب اليه ، أو يجيء منه واللغة يد غريبة تدق باب بيت الغريزة ، والباب جسد المخيلة الذي يفتحه الوهم ويقول لنا: ادخلوا الى غور العمق العميق هناك ستعثرون على أنفسكم الحقيقية عارية ها نحن أولا حال دخولنا سنرى ذواتنا ، تنظر الينا بملايين الصور اذ الجدران مفطاة بملايين ، ملايين المرأيا العاكسة . اللغة المكتوبة للوهلة الأولى غير مقعدة (من قواعد) لغة النشوء القولي الأول ، لغة (الوهم ) فالشاعر حين تدفعه مخيلته (لترجمة !) صوره العجيبة الجائشة في ذهنه يستجير بالمحسوس للخلاص من عذاب المخيلة انه بتعبير أكثف يستنجد بالوهم تصير النطفة الأولى للقول (غير الموجودة أساسا كقول ) كتابة – لغة تتوهم نفسها بوهم المخلوق بينما هي غير صائرة الى تحقيقها، الا بكونها تردادا لعذاب عذب هو عذاب الولادة وبعنف لا يضاهيه الا عنف الجماع الجسدي.
يتوهم الشاعر قولا فلا يقول غير همهمات ، تأتأة (أجزاء وجذاذات كلمات ) ، سرعان ما تنأى عما يريد قوله فعلا، انه يتوهم كتابة شي ء ما : كتابة الشعر، تلكم حقا معضلة كحصان الناعورة رحنا نلف حول نقطة واحدة حول امكانية تحويل الشعر من ماهية الى شعر / كتابة ! ذلك ما فطن اليه ابن طباطبا حين قال (أكذبه ) ، واقفا أمام المسألة عينها التي أقف أمامها الآن ، انما تتجوهر في كون الصدق والحقيقة يرتبطان بما نرى ونسمع ونعي ونفسر ، أما الكذب فخيط منسل من الشي ء غير الموجود بل المموه والموهم بوجوده .
ولنستعن بقا موسية الكلمة (كذب ) واشتقاقها وجذرها وفحواها وتعريفها بما يتيسر لنا من معجم (المنجد في اللغة ) طبعة 27، منجد المعلوف تراث المطبعة الكاثوليكية النفيس :
فـ : كذب ، كذبا، وكذبه وكذبة وكذبا ولحذابا: ضد الصدق / أخبر عن الشي ء بخلاف ما هو مع العلم به / و:العين خانها حسها و_الرأي : توهم الأمر بخلاف ما هو / يقال (كذبتك عينك ) أي أرتك ما لا حقيقة له ، و" كذب السير" أي لم يجد فيه وكذب القوم السرى أي لم يقدروا عليه : ( 00) ويقال "كذبة الحديث " اذا نقل الكذب وقال خلاف الواقع ، و_تكذيبا وكذابا بالأمر : أنكره وجحده يقال (كذب بآيات ربه ) / يقال (أكذب فلان : اذا صيح به وهوسا كت يرى انه نائم الكذابة : ثوب ينقش بألوان الصبغ ، لحانه موشى، الكذوب : النفس لانها تمنى الانسان بالامور، التي لا يبلغها وسعه ، والتكاذب : الأكاذيب والابا طيل .
ولو دققنا في كل هذه الاشتقاقات لاستنتجنا أن (أجمل الشعر لا يخبرنا ما لا نعلم ، ولا يرينا ما نريد، يوهمنا بحقيقة ما لا حقيقة له ، فلا مسير أمامنا ، ولا نقدر أن نفعل ما في استطاعتنا و(الأجمل ) يجحدنا فينكر (نا ، أحاسيسنا وواقعنا) ، موشى (مقنع ) يدهشنا ويغرينا بما نحبه فلا نستطيعا، هو أخيرا باطل م ليس بالمفهوم التوراتي طبعا). وهم يزوغ بنا عما يدور حولنا ونواه ولا نواه ، وجوده الحقيقي في عدم وجوده الحقيقي، لا يشي ء ولا يموضع ، ولا يسمى ، ولا يعرف ، انه الكذبة نفسها ، يحاول الشاعر جهده الباس كلامه صدقا كي نصدقا ، فيما لم يصدق نفسه ما كتب ، وما قال ، الا اذا خان دخيلته ، وجعل لما قال ويقول مرجعا معرفيا ، سياسيا، تعليميا ،توجيهيا، لحظتئذ يتجرد من كاثنيته الشعرية ، الضرورته الاجتماعية ، فيخون الصدفة الشعرية ، بقرار الضرورة (المال ، السلطة ، الشهرة ، نحو المرأة _ الجنس ، المرتبطة بالمسلسل ، أجمله ). الوهم اللغوي خائن للخيال ، والخيال بدوره خائن للصدفة الشعرية ، وتلكم الأخيرة اذ تعمل عملها ، خا دجة من كمونها الأزلي كأنما يطردها الخيال خارج ذاتها، لتصير ذاتا أخرى هي الوهم الذي لا يجد مخرجا له ، الا نفث الاشارات اللغوية ، المعنونة بموت القصيدة ، زمن قول قولها. والهيولي الشعري، مكثف مكنون ، معلق حتى الأزل ، منذ الأزل ، لأنه غير موجود ، الا في وجوده الخاص ، ماهيته الجائلة في اللا مكان واللازمان . امكان غير مدرك الا لذاته (ذات الشاعر) ما إن ينفذ عبر وهمه ، الى ذات القاريء حتى يتوشى بلباس المحسوس (المقروء والمسموع ) هارعا صوب ذات القاريء الى خبيثة فيه ، يختفي مخلفا دهشة واضطرابا، كأنما قوة خفية تنبثق من المجهول لترتد الى المجهول ، الماهية تولد وتموت لتولد: رحمها قبرها اللازمن .
وحينما أصف الالهام الشعري بـ(الحبيس ) فأنا أشيئه خائنا (أناي ) في وصف قولي . أنا أموه لأصف ، وأصور. أنا أتوهم كي أقرب ما يعتلج في ذاتي الى محسوس يدركه قاريء هذا المقال ، فأخون القاريء مرة ثانية ليخون نفسه ثالثا بقراءته ..الخ .
سينتبذ زاوية ويكتب:
القول الشعري خيانة حقيقية للماهية الشعرية والثمن مدفوع في السوق النشري سلفا. وصمنا الوهم بالخيانة ونصبنا أنفسنا قضاة القاضي يستعين بشرائعا المدونة ، فلأستعن بما لدي من قاموس (سبق وأشرت اليه ) يؤيدني توكيد ما اكتشفه العرب الأ وائل ، وتوصلوا ال كنه قولهم بأبلغ القول وأقصره وأدله ، في معناه وليس ماهيته ، في خصائصه ، وليس كليته .
و: وهم يهم وهما في الشي ء: ذهب اليه وهمه وهو يريد غيره أوهم ايهاما _ الشي ء: تركه والوهم (مص ) : ما يقع في القلب من الخاطر، ويطلق على القوة الوهمية ، وهي من الحواس الباطنية التي من شأنها ادراك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات كشجاعة زيد وسخا وته . والعامة تستعمل الوهم للاحتساب والخوف /يقال أدلا وهم من كذا أي لابد منه . والوهم ج "أوهام " ووهم ىوهوم : الطريق الواسع / الرجل العظيم / البعير الذلول في ضخم وقوة ، الو همة : ان ناقة الضخمة .
لو جردنا اللغة القاموسية من حياد يتها لبان : ان الوهم موجود بدرجة المحسوس في ذهننا مكبرا، دلت عليه العرب بضخامة الناقة وقوة البعير وعظمة الرجل ، وا تساع الطريق والخوف من فلان (لجبروته وبطشه ) ولزيد (لشجاعته وكرمه )، بغير الأشياء والناس لا وهم هنا. الوهم : :لك البصاص الدخيل المتخفي بشبح الكلمات والجمل ، الذي يجرجر الماهية الشعرية ، .. خارجا فيلقيها على البياض أمامنا (الأوراق ) يصيرها شيئا مدمي بالحبر.
كيف يعمل الشمر خارج ماهيته حينما يتحول الى وهم :؟ أو كيف تكتب القصيدة ؟ سؤال طريف ودعابة حينما نسأل شاعرا كسر يده اليمني وجفصنها مغللا ، حابسا وهمه تماما في قالب الجفصين ، كيف يكتب ويده اليسرى لا تتقن الكتابة ، ولسانه يلجلج القول عل سامع فيسجله ، أو جهاز فيحفظه ؟ لابد أن المسكين سيسكت هنيهة ثم يقول _ وقد نشفق عليه – أنه يتعذب . آلة الكتابة اليمنى الذراع المسجلة لذبذبات المخيلة تتوقف فيما المخيلة تداوم ملحاحة دونما كلل وحدها وبقوة طاردة حبسها الجفصين الآن ، كلما أعيقت اليد عن الكتابة ولو حاول الشاعر الكتابة جادا باليد اليسرى ، فسيكتب بضع كلمات ويكل ليتوقف (بسبب عدد التعود) ، التعود المعجل تؤديه الاصابع اليمنى برشاقة وسرعة ، ذلك أن الذبذبات سريعة فائقة لا تكاد الأصابع حتى أن تلحق بها وتسيلها حبرا. ولو راقبنا كاتبا عن كثب وخفية وهو أقصى حالات (تألقه )، لرأيناه يكتب مسرعا سادرا، عجلا، رادا عن نفسه ضغط المخيلة ، راكضا ، لاحقا شيطان الوهم اللغوي، متشبثا بذيله مضطرب الانقاس ، عيناه حمراوان وصدره يثقل عليه بسبب افراطه في التدخين (اذا كان مدخنا لم رحبات عرق تتلامع على جبهته أو بين شعرات فودية ، يكون قد أنهك جسده كما تلا امرأة وكما يصل عاشقان ذررتهما الجنسية فالعلائم الناشئة عن الهيجان العصبي والالم واللذة ، شبيهة الى حد ما بالولادة والوصال الجنسي . علائم الكتابة ذاتها لو قسناها بمقياس آلي ، لاكتشفنا أن جهد الكاتب لا يقل عن جهد أي عتال عملاق يحمل الصناديق على رصيف المرفأ، فكيف بشاعر نحيل مكدود، جائع ينوى تحت وزر المخيلة أعظم الاثقال جميعا ، يحملها ، يقاومها ، يتحمل وزرها. بات الفصل والوصل واضحين ، والدافع الأول الخفي يضغط على العقل تتحرك الجمل العصبية ثم العضلات ، فتشرع آلة اليد في الكتابة فالكتابة نتاج آلي بحت ، نتاج الخيال أولا ثم العضلات ثانيا، انها وهم انتاجي للذات ، وليس الذات ذاتها، التي تخبي، الشعر وتخفيه في أصفى خصائصه وأنقاها.
الكتابة صلة المخيلة بالواقع ، وانفصال عنه (المخيلة كتابة غير مكتوبة / كما في حالة الشاعر المكسور اليد اليمنى. الكتابة المكتوبة تخون المخيلة لأنها تتواطأ مع الوهم ، الجاسوس حامل خنجر المخيلة ، المتواطيء مع القاري؟ أيضا، تلح القصيدة على الشاعر المكسور اليد، لما:ا لا يجرب فيمليها عد. أخر لينهي معضلته ؟
المشكلة تكمن في خصائص المخيلة المتكبرة ، حيث تخطر وحدها ، تجوس ردهات الماهية الشعرية ، في انتظار الوهم (على أحر من الجمر!) المخيلة الواحدة الوحيدة هي الشاعر الواحد الوحيد، والمخيلة لحظة عملها ستلغي المحسوس ، أما في حال وجود ثان فسيكون المحسوس واقعا ثابتا يثبت نظرته على شفتي الكاتب ، منتظرا قراراته الشعرية ، يصبح الكاتب تحت المراقبة ، مستنفرا حواسه برد فعل دفاعي يبطل عمل المخيلة ، هنا يبرز العقل الواعي الموجود مع عقل أخر (المستمع والمسجل ) وجها لوجه ، بينما تنزاح المخيلة جانبا يطردها الوجهان المبصران . كيفما كانت المخيلة فهي غير معقلنة ومدركة في ذاتها إطلاقا ، غير محسوسة بحواسنا، وعلى النقيض معها، بل ضدها. الا تختفي الاشباح حقا حين تكون وحدك في الظلمة ثم تسمع جارك يغازل زوجته ؟ لقد أعادك جارك الى طبيعتك .والأشباح تختفي حالما يكون الآخر معك ، مخيلتك أنتجت وهم الأشباح ، ثم انسحبت هنيهة عند دخول غريب ، جارة عقها وهمها وأشباحها ، وقت وعيك لذاتها (المخيلة ).
وساعة ينام الجار وزوجته ، تعود الاشباح تقلق وحدتك ، حينها تشرع في الغناء والصغير ، توهم نفسك بعدم وجود وهم ما ، تحتال على مخيلتك وتوهمها بعدم وجودها، باستخدامك الصوت المسموع ، عدو المخيلة ، الميالة للممت والعزلة والسرية . الانفراد والوحدة والعزلة والانزواء انما هي الأوضاع المفروضة على حياة الشاعر (وان ادعى غير ذلك ) السرية الشديدة الخصوصية ، وان كتب مضطرا في ردهة ملأي بالسجناء، حينئذ سينتبذ زاوية ويكتب ، ينفصل مع مخيلته ليخلق أوهامه التي تخلقه شاعرا سجينا وسجانا، سجين السلطة وسجان الالهام الشعري الخالص .
حسنا لنكن ستسامحين مع الشاعر المكسور اليد اليمنى، ولنضع قدامه جهاز تسجيل سيكون الأمر عسيرا عليه ، لسبب وجيه ، فهو مضطر لأن يقول الكلمات بصوت مسموع ، كي يسجلها الجهاز، سيسمه صوته حينها، كأن شخصا ما بجانبه يحدثه والصوت عدو المخيلة ، كما أسلفنا . ذاك لو أضفنا كون الشاعر ملزما كل فترة بايقاف الجهاز وتشغيله ، ينبهه الى أنه يقول كلاما لم شعرا!.. ولحظة انتباهه ستهرب المخيلة عن طريقه ، فالقسر الألي يحيلها عقلا منتبها لنفسه : كلاما مشروطا بالحواس الواعية ، والوعي ضد المخيلة مرة أخرتى . المخيلة غير واعية ومحسوسة ، خارج موضوعية العقن انها في جوهر الأمر ضد العقل ، ولو عدنا وراقبنا الشاعر يكتب لعجبنا من تصرفاته . هاهو يضع القلم في فعبه ويمصه ظنا منه أنا سيجار ته المشتغلة ، أو يشعل سيجارة وأخرى في فمه ، وثالثة في المنفضة أو تنطقي؟ سيجار ته فيهب راكضا لاشعالها فاتحا الحنفية عليها كأنها كبريتة ، حقا (يخربط )! الشاعر عند بحرانه في ميكانيكا الاشتعال والانطفاء ، يتشوش ادراكه أساسا بخاصية الفعل المنتج الواعي المفيد.
واذا كان أمامه كوب شاي ونسيه ، فسيمد يده في غفلة منه ، ويضع المنفضة في فما ليشرب منها شايه البارد. وكثيرا ما لاحظ شعراؤنا ، فيما بعد ارتكابهم بعض الا غلاط والهفوات والمصيبة اذا كانوا متزوجين ، فالمكواة في البراد، والمنشفة في المكتبة ، والسجائر مطفأة في صحن (الفتوش ). سيطرة المخيلة على الكاتب تلفي احساسه الموضوعي ترجعه الى هدايته ، حيث لا ترتيب ، وما الترتيب الا سمة من سمات العقل .
بينما المخيلة أم الفوضى تسوغ من فوضى الواقع ، فوضى بديلة مخصبة بوقائع جديدة أخرى . مغايرة (فوضى مقابلة لفوضى الواقع ) كما قال أحد النقاد العرب النابهين يوما.
الوهم يخلق واقعه الشخصي فيلفي الواقع الموضوعي، ويدافع من المخيلة المعتزة بوحدانيتها وتفردها وخصوصيتها حتى النهاية . وبصراحة : المخيلة لا تشتري أو تباع ، ليست ضميرا ولا أخلاقا انها سجانة الالهام الشعري وسجينة الوهم اللغوي.
بقي أن الشاعر حين تشفى يده ، ويفك الجفصين ، سيسجل ملاحظاته الخاصة بحركية مخيلته ، فيما لا يستطيع أن يكتب قصيدة واحدة لفترة تطول ربما، يكون الشاعر مراقبا ذاته راصدا انبثاقات مخيلته . في الفترة التي يرزح الوهم (الكتابة ) تحت نير الاغلال وقيود الجفصين . الوهم حبيس والمخيلة حرة تجول هنا وهناك ، حول الالهام الشعري ، تضغط عليه ، تضطهده ، ولا ضير فالا لهام الشعري يضحك من المخيلة لأن القول الشعري الساعد اليمنى للوهم الساعد )اليمنى للمخيلة ، حبيس اليد اليمنى المكسورة والالهام الشعري حر في سجنه الآن ، لا يسطو أحد عليه ، ولا يموهه أو يفضح دفائنه ، وينتض أسرارا المخيلة باب بين الحرية والعبودية والالهام الشعري حرية مسجونة والوهم يبيع ويشترى يتاجر بالقول الشعري مع الآخر، الثاني ، القاريء.
يتخلص الوهم أفيه .ا من قالب الجفصين ، ولكنه سيعود بعد قيد طال أمده ، منهكا متعبا ومريضا غير قادر على انجاز واجبات المخيلة المشعشعة بأوج نشاطها وحركيتها.
ماذا تفعل اليد السليمة ، بمخيلة بلا وهم ؟ ستكتب هذه الملاحظات ، لا أكثر بعد أن أخضع الشاعر مخيلته لمراقبة العقل فترة (شهرا كما حصل لكاتب السطور).
جنان جاسم حلاوي(شاعريقيم في السويد)