تميز الأدب المكسيكي منذ أصوله بميزتين اثنتين تبدوان متناقضتين، واللتان، مع ذلك، تشكلان هذا الأدب، وهما النزوع الكوني والإنجذاب نحو واقعنا المتفرد. الجذور والأجنحة، ومثل كل الآداب الأمريكية الأخرى- سواء كانت مكتوبه بالانجليزيه أو الاسبانية، بالبرتغالية أو بالفرنسية – كان في البداية حوارا مع تقاليد الوطن الأم (الميتروبول)، وهي اسبانيا فيما يخصنا نحن، إسبانيا التي كانت تعيش حينها عصرا متألقا ومشرقا.
وهذا الحوار تحول، سريعا، إلى حديث متعدد ومتحمس مع باقي الآداب الأوروبية. وهي علاقة قوية جدا تحولت أحيانا الى جدالات والى قطائع (ج. قطيعة)، وأحيانا أخرى الى مونولجات والى مغامرات متفردة. إن كل هذه التغيرات وهذه التقلبات بينت هذا النزوع المزدوج الذي يقسم أدبنا، والذي يوحده مع نفسه في نفس الآن: حب الكوني وارادة العودة العنيفة إلى تفرده الحميمي وفي الانصهار فيه. هذه الثنائية كانت حاضرة لدى "صور خوانا انيس" دولا كروز «اول كاتب عظيم في قارتنا: فشعره ينوس بين باروكية القرن الثامن عشر الثري بالذكريات الكلاسيكية واللغة الشعبية، وأما العلامة الأخرى المميزة للأدب المكسيكي فهي الحضور الثابت والمستمر، وان أحيانا بصفة مستترة، للوقائع غير الأوروبية لبلدنا.
ان الواقع الهندي (الأحمر) بالنسبة لنا هو في نفس الآن ماض وحاضر. إنه شبح أيقظنا للتو، إنه حضور يسائلنا، حضور سري، خفي، منسي أو مدفون، ولكنه ينبثق فجأة مع عنف كشفة غيب. وحين نتحدث مع هذا الواقع (الهندي) فإننا نتحدث مع أنفسنا.
إن التوتر بين الكونية والمكسكة Mexicanite هو نتيجة لعلاقاتنا المتناقضة مع الحداثة، مع قيمها ومع سراباتها، أود أن أبين أن هذا التوتر ليس صراعا، ولكنه موهبة مزدوجة. إنه النتيجة الطبيعية لتاريخنا، وعلى كل حال فان نفس التوتر يظهر في كل الآداب الأمريكية، بما فيها أدب الولايات المتحدة. ولا شيء يثير الدهشة لكون كل الكتاب المكسيكيين أظهروا وفاء لهذه النزوة المزدوجة، فكلهم أرادوا ومازالوا يريدون أن يقولوا ما بحوزتهم، ويقولوا بأنهم الوحيدون الذين يستطيعون قوله، حقيقتهم المتفردة.
ولكنهم، وبموازاة مع هذا، بحثوا جميعا ومازالوا يبحثون عن نقطة التقاطع بين الكلام الكوني وبين أصواتهم الخاصة، بين زمنهم والزمن الذي يعيشه باقي العالم. إن كتابنا أرادوا أن يكونوا حديثين، وأفضل كتابنا نجحوا في هذا. أضيف بأن بعضهم أيضا نجحوا بصعوبة في العثور على حداثة بدون تاريخ، وهي الحقيقة التي تستحق الاهتمام. غير أن حداثة الآداب المكسيكية في هذه الساعة تطرح علينا قضايا وتجعلنا نواجه وضعيات لم يعرفها ويصادفها سابقونا. فالحداثة بالنسبة لهم كانت "امنية"، وهي بالنسبة لنا حقيقة، ولكن خوفا من التعرض للافتراس من قبلها، فان علينا مواجهتها وتخطيها.إن ركود الأدب المعاصر هو سر شائع. سر موهوب بوجود في كل مكان والذي يتحدث بلغات عديدة. قلت
"ركود" ولم أقل انحطاطا، لأني أعتقد أن الامر يتعلق بعجز عابر، ومن الصعب تحديد أسبابه، ولكن ليس من كبير مجازفة الاعتقاد بأنها تمتزج مع الأسباب التي تشل حضارتنا في نهاية هذا القرن الشفقي (أي القرن العشرين)، إننا نعيش استراحة تاريخية، سأذكر، بإيجاز، بعضا من اعراض مرضنا. إننا نقرأ كل يوم تقارير ومقالات وروبورتاجات عن حدث مربك: بمقدار ما تتشعب التربية، وبمقدار ما تختفي الأمية، فإننا نلاحظ أن اهتمام الجماهير الحديثة بالقراءة في تضاؤل، إن هذه المجافاة التي تتمشى أحيانا مع المعارضة، تؤثر خصوصا على ما نسميه – أجهل لماذا- ب"الجاد"، كما لو أن"ارسطوفان" و"بوكاس" و"رابليه" و"سيرفانتس" و"سويفت" كانوا أناسا "جديين" إننا نقرأ كل يوم أحكاما وقرارات حول انحطاط الأجناس الأدبية. أحيانا يتعلق الأمر بالرواية، وأحيانا أخرى بالقصة القصيرة، بالمسرح أو المقالات النقدية، ودائما بالشعر. وهذا الأخير صدر عليه الحكم بالبطلان. إدانة غريبة: هل تخيلنا فقط ما كان يمكن أن يكون عليه أدب القرن العشرين دون "ريلكه" ودون "فاليري (بول)" بدون "ييتس" او "مونتال"، دون "نيرودا (بابلو)"، دون "بيسوا (فيرناندو)"؟ إن البعض يفسر ندرة الأعمال التجديدية بسبب الإعياء: بعد كثير من أجيال القطائع والاختراعات، بعد الكثير من الثورات الجمالية، وكثير من القصائد ومن الروايات التي حرمت مفهوم الادب نفسه، فإن استراحة ما، هي شيء طبيعي. ومن أجل استعادة التنفس فيجب التوقف لحظة ما. والبعض الآخر يتهم الحكومات والتلفزة والتسلية المتعددة الجنسيات: فتحت العلامة المميزة الكاذبة ل"الثقافةالشعبية" يمنح هؤلاء للجماهير الاستعراضات والتسلية التي تعتبر المعادل الحديث لسيرك "روما" ومدرجات / ميدان القسطنطينية.
لقد ذابت معظم هذه الانتقادات، ولكني أعترف أنني لا أرى جيدا كيف يمكننا مداواة هذه الآلام التي تدينها هذه الانتقادات دون إصلاح شامل للمجتمعات المعاصرة. إن هذه الآلام يمكن تفسيرها، في الواقع، بواسطة الطبيعة ذاتها لحضارتنا، من المؤكد أننا نستطيع تصحيح الوضع بعض الشيء. مثلا عبر تحسين دراسة "الانسانيات" والأدب في مدارسنا وجامعاتنا. إننا سوف نستطيع، بصفة نشطة، أيضا معارضة ومواجهة التلاعبات والمضاربات الشاذة، السياسية والتجارية، التي تمارس اليوم تحت قناع كلمة "ثقافة". يوجد كثير من ردود الفعل الحيوية، ولكنها ليست كافية.
البلاهة التي تحاصرنا.
من بين كل الانتقادات التي يمكننا قراءتها، نجد من يحيل الى الصعوبات التي يواجهها العديد من
المؤلفين حين يرغبون في نشر مؤلفات، نسميها بشكل تلطيفي، "صعبة"، حين لا ننعتها بسمة تحقيرية: نخبوية. ومنذ ظهور المطبعة، والعلاقات بين المؤلفين والناشرين كانت في نفس الوقت مضطربة وضرورية: فعلى الرغم من شجارات الطرفين التي لا تتوقف فإنهما لا يستطيعان أن يعيشا أحدهما دون الآخر. إن المنطق الذي يحكم نشر الكتب هو منطق السوق: إنني أضيف بأن هذا المنطق لا يمكن أن يطبق بطريقة آلية على هذه العملية المعقدة والدقيقة التي تتعلق بتأليف كتب ونشرها وتوزيعها وقراءتها. إن الأدب لايهتم ولا يبالي بقوانين السوق. إن هذه اللامبالاة تحولت، أحيانا، إلى تمرد- وهذا التمرد شكل جزءا من تاريخ الأدب في القرن العشرين. وبطبيعة الحال لا أدب من دون ناشرين. لكن ليس العدد (أو الرقم) هو الذي يحدد قيمة الأعمال الأدبية. فال"مالارميون" (جمع، مالارمي: الكاتب الفرنسي الكبير) ليسوا بأقل قيمة وأقل حاجة من "زولا". إن منطق السوق يدفع الناشرين الى مضاعفة منتجاتهم ؛ وبالتالي يقودهم إلى توحيدها. إن الأفضل هو نشر أكبر عدد من النسخ من كل كتاب، وأن يكون كل كتاب في آن واحد جديدا ومشابها للكتب التي سبقته. إنه سر الكتاب الأكثر مبيعا: إنه منتج جديد ولا يوجد اختلاف فيه عما سبقه من كتب إلا في الظاهر. وفي الحقيقة، وبعيدا عن أن يكون مختلفا، فانه لا يفعل سوى تكريس وتأكيد ذوق اليوم والموضة السائدة. إنها جدة غير مؤذية وغير مضرة بشكل كامل، والتي قمنا من أجلها بتبريد الأسنان وقطع الأظافر.
إن العلاج الوحيد الذي يأتيني الى الذاكرة، أمام هذه الوضعية، هو الرهان على تعددية الأذواق والأهواء والنزعات. وكي نستعمل عبارات تقنية: فإننا نقول يجب تنويع السوق. واذا لم نكن نريد فقط تحقيق صفقات رابحة، وانما انقاذ الأدب من التجمد الذي يتهدده، فيجب.الاعتراف بوجود اقليات وتشجيعها. إن الأقليات هي سر الصحة الأدبية. واذ أتجرأ على القول، إنها صحة حضار تنا. إن العلاج الذي اقترحته للتو يتعلق، في الأساس، بتجديد الروابط والصلات مع التقاليد الكبيرة للناشرين في العصر الحديث منذ القرن الثامن عشر. وكيف يمكننا أن ننسى أن وجود أدبنا لا يدين فقط لعبقرية أو موهبة كبار شعرائنا وكتابنا، ولكن أيضا لعمل العديد من الناشرين الجسورين والأذكياء؟ إنهم هم الذين خاطروا بنشر أعمال شاذة، والتي كانت كثيرا ما تتحدى الرأي العام، وذوق وأخلاق الأغلبيات، والكنائس والحكومات، ولحسن الحظ فإن هذا التقليد مازال حيا، وبفضل هذا التقليد، فاننا لن نتعظ، كليه، بهذه الموجة الكبيرة من الغباوة التي تحاصرنا. ولكن هذا التقليد مهدد من قبل الإشهار واتحاد المؤسسات المالية الكبرى وصناعة التواصل والتسلية والمال واللامبالاة، حينما لا يكون مهددا من تواطؤ الحكومات، إننا نحتاج، الى ناشرين من هذا المعدن، جسورين وعشاقا للأدب ومصرين على تحمل المخاطر.
وسيكون خطأ لا يغتفر، ونفاقا، الا نضيف أننا نحتاج، أيضا، وبدرجة خاصة، الى الكتاب. يجب أن نعيد ربط الصلات بتقاليد آداب القرن العشرين الكبرى. ليس من أجل تكرارها، ولكن من أجل تتبعها ثم تطويرها. إنني لا أفكر في لقية أسلافنا المباشرين، ولا في الأشكال التي ابتدعوها: لماذا اعادة انجاز ما أنجز بطريقة جيدة – ما الفائدة إذن؟ لا، إني اؤكد أنه يجب العودة الى اندفاعهم وزخمهم الأولي. إن أدبهم لم يكن لا بذيئا ولا تقاليديا، ولكنه كان، على العكس،
نقديا، خاليا من الاحترام، وعنيفا وفي الغالب كان معتقدا وصعبا. إن الكلاسيكيات الحديثة لم تهادن وتدغدغ الأذواق، المسلمات و أخلاق قارئيها. إن أقوالهم لم تكن تستهدف التهدئة، وانما الإقلاق والإيقاظ. لقد كان أدب كتاب لا يخافون أن يجدوا أنفسهم وحيدين، والذين لم يلهثوا، واللسان ساقط خلف "الهة النجاح" (الكلبة)، لقد كانت مهنة الكتابة بالنسبة لهم مغامرة في مواقع لم تكتشف بعد، ونزولا الى قعر اللغة. لقد منحونا درسا في ضبط النفس ورباطة الجأش، وأيضا في الشجاعة وفي التجرد.
ولهذا السبب فأعمالهم سازالت حية. إن علينا نحن، كتاب اليوم، أن نتعلم من جديد هذه الكلمة القديمة والعتيدة التي طبعت بداية الأدب الحديث: لا. لقد آمنت دوما بأن الشعر- حتى الأكثر قتامة، الذي يولد من الفظاعات ومن الكوارث – يتحول، دائما، إلى الاحتفال بالوجود. إن أسمى رسالة للكلام هي مديح الوجود. ولكن قبل كل شيء يجب أن نتعلم قول: لا. إنه
شرط شرفنا. وبعدها ربما، نستطيع التلفظ بكلمة: نعم كبيرة، والتي بوا سطتها نقوم، كل صباح، بإلقاء التحية على النهار الذي يولد.
ترجمة: محمد المزديوي (كاتب ومترجم من المغرب يقيم في باريس)