تعد سلطنة عمان فردوس عشاق مراقبة الطيور، فموقعها على مفترق طرق ثلاثه، هي أهم مناطق الطيريات في العالم، يمنحها الفرصة لاستيطان تشكيلة هائلة من السلالات، إضافة الى استقبالها مرتين كل عام لزيارات من الطيور المهاجرة. وتنتشر أنواع كثيرة من تلك الطيور بطول السواحل العمانية، وعبر مواقع أثبتت أحدث الدراسات أهميتها العالمية كموطن غذاء لهذه الطيور.
لكن وفي الربع الخالي، وبأ قصى منطقة وأنتاها وأكثرها إقفارا، يعيش أنبل الطيور العمانية على الاطلاق. "العقاب الذهبي" حيث يعد هذا الطائر كائنا لا يبارى بجناحيه اللذين يبسطهما فيتخطيان المترين، فيها يرن حتى ستة كيلو جرامات، مما يجعل له رؤية مهيبة حينما سيحلق فوق كشبان الرمال والسهول المغطاة بالحصى. ويعرف العقاب الذهبي علميا باسم. Aquila Chrysaetos. والصورة الشائعة عن هذا العقاب الذهبي ليست بالتأكيد كونه طائرا صحراويا. فغالبا ما يتم تصويره على خلفية من الجبال الصخرية كما هو في المناظر التياعتدناها في سلاسل جبال لهيمالايا وروكي الأمرميكية والمرتفعات الاسكتلندية.
ويعد هذا العقاب كذلك الأكثر انتشارا في العالم بأسره، من سيبيريا وعبر القارة الآسيويته، الى أوروبا وشمال افريقيا والجزيرة العربية، بألوانه وأحجامه التي تختلف بشكل بسيط كلما اختلفت تشكيلته.
وقد شاهدت العقبان الذهبية للمرة الأولى بالسلطنة في العام 1980، بينما كنت استكشف طريقا لخط أنابيب بوسط عمان، استوقفني نذاك مشهد لا أنساه، انتبهت عيناي لشجرة وحيدة كما لو كانت تتخذ ذلك المكان بين الكثبان لجذب الانتباه، يعلو قمتها طائر ضخم جدا، ذو لون بني داكن. وعندما قدت سيارتي بحذر تجاهها، وأميت طائرا آخر، لكنهما سركان ما حلقا قبل ومولى للشجرة التي فحصتها بينما الطائران في الأعالي، لأجد عشا كبيرا ومتسخا، وقد غطته نثارات من بقايا أرانب برمية وطيور الغداف بنية العنق. ولحسن الحظ عاد أحد الطائرين مما مكنني من التقاط صورة له، لاكتشف لاحقا انني شاهدت عقابا ذهبيا يافعا _وهو أول حدث من نوعه في السلطنة لعقاب بهذا العمر.
كان استنتاجي الواضح أن هذه العقبان الذهبية تتناسل هنا في السلطنة، لكن الحذر كان مطلوبا قبل نشر مثل هذا النبأ. فحتى ذلك الوقت لم يسمع أحد عن العقبان الذهبية في عمان، وكان السجل الوحيد المدون عن تواجدها في شبه الجزيرة العربية لا يعدو وجود عش على نتوء صخري في مدينة جدة قبل ذلك التاريخ بنحو32عاما.
وفي يناير 1981 جاء البرهان على كون السلطنة موقعا لتناسل العقبان الذهبية. كنت استكشف قطاعا آخر من خط الانابيب يبعد حوالي 0 10 كيلومتر عن أول موقع، وهناك اكتشفت عشا لفرخين ضخمين، غطاهما القش، ويبلغ عمرهما أسبوعا أو اثنين.
عدت لزيارة الموقع بعدها بأيام مع مايكل كالأجر، ن متحف عمان للتاريخ الطبيعي. وتصف كلماته بليغة ما شاهدناه صباح ذلك اليوم [ في صباح بارد تمسده الرطوبة شاهدنا، مايك وأنا، عقابا بالغا جاثما على ذلك العش، بينما الفجر ] ينبلج نوره. في البداية كان العقاب واقفا بلا حراك، بظهره المحدودب المتجه لنا وللشمس، التي بدأت في الصعود لكرسي إشراقها، وبدأ العقاب في تسوية ريشه في تباه، وسر عان ما طار، محلقا فوقنا في دوائر آخذة بالا تساع، اتجه بعدها الى ربوة نائية. وفي لحظة وصوله، وبحركة هجوم مباغت انقض على الحدود الداكنة لرفيقته الرابضة على الحافة هناك، مرة بعد أخرى، حتى غيرت اتجاهها. وانتهت اللعبة وحلق طائرنا عاليا، حتى اختفى عن العيون.
وفي منتصف النهار على وجه التقريب، عاد أحد الأبوين، محلقا أدنى قمة الشجرة وبين مخالبه النصف الخلفي لأرنب بري، وكان واضحا لدى رؤية حوصلته المتضخمة أين ذهب النصف الأول !. وفي برهة اقترب من العش وابتعد، تاركا الفرخين يتنازعان على تلك الفريسة التي لا تزال دافئة ] (من عقبان الرمال الذهبية، PDO News. 1984).
في الشهر التالي (فبراير 1981) كنت قادرا على برهنة نهائية بأن اكتشافي الأول كان عشا لعقاب ذهبي. فقد وجدت حينها، وفي عش بنفس الشجرة فرخا وحيدا غطاه الزغب _ عقاب صغير _ بينما بدأت ريشا ته الداكنة تحاولن الظهور عبر اللون الأبيض. وفي نهاية الشهر، شاهدت عقابا بالغا في نفس موقع العش، مع فرخ آخر أكبر حجما وأقل ارتفاعا.
وبدأت بعد تلك الاكتشافات الأول اكتشافات أخرى لمواقع أعشاش بالمناطق الداخلية. ويعلم كلنا وجود نحو دستة من المواقع التي يقدر أن يكون نحو 40 فرخا من العقاب الذهبية قد كبر بها خلال السنوات الماضية، ولا شك أن هناك مواقع لم تكتشف بعد بغض النظر عن حجمها.
ويبلغ عش العقبان نحو المتر عرضا _ويتم اخفاؤه بمهارة في قلب إحدى أشجار السيح. وكانت الاكتشافات جميعها بمحض المصادفة، أو نتيجة لبحث منهجي عبر الا شجار بالمناطق التي تشاهد بها العتبان الذهبية البالغة. ولحسن الحظ وبفضل تقليص نسبة إقلاق الطيور الى حدها الأدنى، تعود العقبان الذهبية البالغة للتناسل في نفس العش عاما بعد آخر. ويسمح لنا هذا بالتعرف على خط نجاحاتها في التناسل وكذلك فشلها.
فعلى سبيل المثال، وبأ ول مواقع الأعشاش التي اكتشفتها، كانت العقبان هناك جادة، فخلال 10 سنوات من 12 سنة جرى فيها مراقبة العش شغل العش دائما، ونمى خلال هذه الفترة 15 عقابا صغيرا.
لكن عقبان عمان الذهبية قدمت للحياة في الصحراء أحد أهم ظروف التكيف وأكثرها طرافة :
حيث تم تعديل موسم التزاوج الطبيعي حتي يستفيد بشكل كامل من شتاءات الصحراء الباردة. ففي الأقطار ذات الطقس الشمالي حيث تتناسل هذه العقبان، فإن دورة التزاوج تبدأ مبكرة في كل عام جديد. ولكنها هنا في السلطنة تستمر طوال الشتاء، مع تزاوج في أكتوبر، ووضع البيض واحتضانه في نوفمبر، الاحتضان الذي يتناوبه الأبوان، اللذان يزينان البيض ببقايا خرق بالية، وأوراق، ونباتات طازجة، حتى تبدأ العقبان الصغيرة في الخروج أوائل يناير.
ومن المعتاد أن يكون عدد البيض اثتنين _ وأحيانا ثلاثا _ ولكن غالبا ما يه عش طائر واحد فقط منها، حيث تقوم الطيور التي تخرج مبكرا بقتل الفراخ التي تتلوها بثلاثة أو أربعة أيام، بل ربما يقذفون بها خارج العش. ولكن حالما ينبت ريشها، وتحصل على كنايتها من الطعام، تبدو سعيدة بمشاركتها الحياة.
في صغرها تقوم العقبان الصغيرة بالتقاط الطعام من الأبوين، اللذين يقدمان شرائح اللحم من فمهما بعد مضغها. وأحب ما تلتهمه عقبان عمان الذهبية هو أرنب الصحراء العربية البري [اسمه العلمي Leupus ] [Capensis Cheesmani] وهو من أكثر الثدييات الصحراوية شيوعا، رغم أنه نادرا ما يرى لأن فروته الرملية اللون الشاحبة تجعل من الصعب رؤيته.
الرمال، كما تأكل العقبان الذهبية كذلك العظايا والقنافذ وسلالات الطير الأصغر منها، وحتى الجيف حينما لا يتوافر الطعام الطازج.
ويدعى بعض البدو أن العقبان الذهبية تلتهم أطفالهم وشياههم من وسط القطعان. لكن لدي احساسا أكيدا بأن العقاب لا يهاجم أية قطعان قوية تحت الحماية – رغم أنه قد يتسلل ليحمل خاطفا حيوانا يحتضر أو جثته مما يجعله لا يستحق سمعته هذه بين هؤلاء الرعاة.
ومثل طيور قناصة أخرى كثيرة، نجد العقاب الذهبي يقذف بما لم يستطع هضمه (من عظام وفراء)، الأمر الذي يجعل من الممكن تحليلها، لاكتشاف المزيد عن وجبات الطيور ومعظم ما جمعت من هذه البقايا تبدو مخلفات الأرانب البرية.
بعدما تفقد فراخ العتبان زغبها الأبيض، وينمو ريشها الأكثر دكنة سمة للبلوغ، يكون شهر مارس قد بدأ وتكون هي جاهزة للتأهل، ويبدو أنه رغم مهارة العقبان البالغة في الطيران، إلا أن تعلم مهارات التحليق والقنص تبقى في واقع الحال مهمة الصغار وحدهم. ولا أزال أذكر مرة كنت أراقب فيها عقابا يتعلم القنص، كما كان يبدو. وكان الجو عاصفا، وهو يخطي، بمحاولة الهبوط عكس الريح، التي قلبته في ثلة من الرمال والريش، ليستقر على ظهره ! وتتشبث المخالب القوية بالهواء قبل أن تعدل وضعها، نافضا الرمال والتراب من على ريشه.
وتبقى العقبان اليافعة حول موقع العش قرابة الشهرين، بعد تعلم مهارات التحليق والقنص في كنف أبويها (اللذين يطعمانها حتى ذلك الحين ). وفي وقت ما من شهر مايو، وحينما تشتد الحرارة بدرجة لا تحتمل في وسط عمان تغادر العقبان أعشاشها الى بقعة ما، لا تزال مجهولة.
ورغم مشاهدتي لمجموعة من ستة عقبان قرب واحة على تخوم الربع الخالي، خلال شهر أغسطس، فليس هناك من دليل كاف على معرفة ما يحدث لها: هل تطير الى جبال ظفار ذات الطقس الأبرد، أو الى الجبل الأخضر، أم أنها تغادر السلطنة كليا؟! لكن المؤكد أنه في شهر أكتوبر، ستعود العتبان البالغة الى العش ذاته لتبدأ دورة حياة تناسلها مرة أخرى.
وبغض النظر عن حجمها فإن العقبان الذهبية لا تعدم الأعداء الطبيعيين. فحين تظل في العش، تبقى الأفراخ الصغيرة على وجه خاص عرضة للخطر من قبل الفارات المتكررة. فبعد اكتشاف أحد الأعشاش وبه 3 أفراخ، عثر بعد أقل من شهر على الأفراخ جميعها قد قتلت، وعلى عنقها آثار أسنان. فيما كانت الشجرة تحصل علامات مخالب تعود في حالتها الى أحدى الطرائد المفترسة.
لكن يبقى الانسان قناصها الأول، وتبقى الاكتشافات التي تحدث رهن المصادفة من قبل الرحالة والبدو مصدر خطر على تلك الاعشاش والعقبان الصغيرة التي قد تقتل أو يتم أسرها حية اعتقادا بقيمة مادية لها.
ويبقى الأمل في الوعي المتنامي بالبيئة لتوفير الحماية لهذه السلالات، مما يعد بمستقبل زاهر لتلك الطيور القناصة، التي تستوطن السلطنة.
Mike Brown: Aristocrats of the Air (in) A Tribute to Oman, No.11 pp. 152-156
مايك براون (النص والصور)
الترجمة: أشرف أبو اليزيد